فتحت السلطات السورية تحقيقًا جنائيًا واسع النطاق في قضية مقبرة جماعية سرية، كشف عنها تقرير استقصائي حديث، والتي يعتقد أنها تحتوي على رفات آلاف الضحايا. يأتي هذا التحقيق بعد سنوات من الصمت والتكتم حول هذه الفظائع المزعومة، والتي يُزعم أنها ارتكبت خلال فترة حكم نظام بشار الأسد. وتُركز التحقيقات الأولية على منشأة عسكرية مهجورة في صحراء الضمير شرق دمشق، حيث يُشتبه في إخفاء جثث الضحايا.
وأمرت الحكومة السورية بفرض حراسة مشددة على موقع المقبرة، بعد أن كشف التقرير عن تفاصيل مثيرة حول عملية منظمة لنقل الجثث وإخفاء الأدلة. وتشير المصادر إلى أن هذه العملية، التي أُطلق عليها اسم “نقل الأتربة”، بدأت في عام 2019 واستمرت حتى عام 2021، بهدف طمس الأدلة المتعلقة باعتقالات واعدامات جماعية.
عملية نقل الأتربة وتفاصيلها
وبحسب شهادات ضباط سابقين ومصادر عسكرية، تم إخلاء الموقع من العاملين في عام 2018 لضمان السرية التامة للعملية. وكانت العملية تتضمن نبش مقابر جماعية في ضواحي دمشق، وتحديدًا في منطقة القطيفة، ونقل رفات وجثث الضحايا بالشاحنات إلى منشأة الضمير الصحراوية.
وتشير التقارير إلى أن العملية جرت على مدى عامين، بمعدل أربع ليالٍ في الأسبوع، حيث كانت الشاحنات المحملة بالجثث والأتربة تدخل الموقع تحت حراسة عسكرية مشددة. ثم تُفرغ حمولتها في خنادق وحفر تم إعدادها خصيصًا لدفن الرفات، في محاولة لإخفاء الأدلة على الجرائم المرتكبة.
التحقيقات الجارية وتأمين الموقع
ومع سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، عاد الجيش السوري للانتشار في الموقع، ليس لإخفاء الجريمة، بل لتأمينها والبدء في التحقيقات. وأكد مسؤولون عسكريون أن منشأة الضمير عادت للعمل كثكنة عسكرية ومستودع أسلحة، ضمن خطة أوسع لتأمين المناطق الصحراوية المفتوحة.
وتأتي هذه الخطوة في ظل استمرار التهديدات الأمنية في المنطقة، خاصةً مع وجود نشاط لتنظيم الدولة الإسلامية بالقرب من الطريق الصحراوي الذي يربط دمشق بالمناطق الأخرى. وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية نشاطًا متزايدًا للمركبات العسكرية في محيط القاعدة منذ أواخر نوفمبر الماضي.
دور الشرطة والهيئة الوطنية للمفقودين
على الصعيد القضائي، أعلن رئيس مخفر شرطة الضمير عن فتح تحقيق رسمي في قضية المقبرة الجماعية، يشمل توثيق الموقع بالصور ومسح الأراضي والاستماع إلى شهود العيان. وقد أدلى العديد من الشهود بتصريحاتهم للشرطة، بما في ذلك أحمد غزال، وهو ميكانيكي شاحنات شارك في إصلاح المركبات التي نُقلت عبرها الجثث.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الهيئة الوطنية للمفقودين، التي تأسست للتحقيق في مصير عشرات الآلاف من المختفين قسريًا، أنها تعمل على تدريب كوادر متخصصة وإنشاء مختبرات جنائية وفق المعايير الدولية لنبش المقابر الجماعية. وتخطط الهيئة لبدء عمليات نبش واستخراج الرفات من عدة مواقع، بما في ذلك موقع الضمير، في عام 2027.
وتشير التقديرات إلى أن عدد الضحايا المدفونين في هذه المقبرة قد يصل إلى الآلاف، مما يجعلها واحدة من أكبر الأدلة على الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية السورية. وتعتبر هذه القضية بمثابة تحدٍ كبير للعدالة والمساءلة في سوريا.
وتشير التحقيقات إلى أن قرار إخفاء المقابر الجماعية يعود إلى عام 2018، حين كان نظام بشار الأسد يقترب من “إعلان النصر” في الحرب، ويسعى إلى استعادة شرعيته الدولية. وقد صدر أمر مباشر من القصر الرئاسي بنبش مقبرة القطيفة ونقل الجثث إلى منشأة الضمير، في محاولة لمحو آثار الجرائم.
واعتمدت التحقيقات على شهادات 13 شخصًا لديهم معرفة مباشرة بالعملية، وتحليل أكثر من 500 صورة أقمار صناعية، واستخدام صور طائرات مسيّرة، بإشراف خبراء في الجيولوجيا الجنائية. وقد أظهرت هذه الأدلة تغير لون التربة وآثار النبش في مواقع الخنادق، مؤكدة وقوع عمليات نقل واسعة للجثث والرفات.
من المتوقع أن تستمر التحقيقات في قضية المقبرة الجماعية لعدة أشهر، وقد تؤدي إلى توجيه اتهامات لمسؤولين كبار في نظام بشار الأسد السابق. وتعتبر هذه القضية بمثابة خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة والمساءلة للضحايا وعائلاتهم، وإعادة بناء الثقة في المؤسسات القضائية السورية.
وستراقب الهيئة الوطنية للمفقودين عن كثب سير التحقيقات، وتعمل على توفير الدعم اللازم للضحايا وعائلاتهم. كما ستواصل جهودها لتوثيق الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية السورية، وجمع الأدلة التي يمكن استخدامها لمحاسبة المسؤولين.






