في خضم التوترات التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين، تظهر صورة معقدة تتجاوز التصريحات المتشددة والرسوم الجمركية المتبادلة. ففي حين توقع البعض ضعفًا متزايدًا في الاقتصاد الصيني، تشير التطورات الأخيرة إلى قدرة بكين على الصمود والتكيف، بل وحتى اكتساب نفوذ استراتيجي في مجالات حيوية. هذا المقال يتناول التطورات الأخيرة في العلاقة الاقتصادية بين البلدين، ويحلل مدى قوة الصين في مواجهة الضغوط الأمريكية، ويستكشف مستقبل هذه المنافسة.
خلال الأشهر الماضية، تبادلت واشنطن وبكين إجراءات تصعيدية، بدءًا من الرسوم الجمركية على السلع المتبادلة وصولًا إلى القيود المفروضة على التصدير. ومع ذلك، بدلاً من الاستسلام للضغوط، أظهرت الصين مرونة وقدرة على المناورة، مما أجبر الولايات المتحدة على إعادة النظر في استراتيجيتها والتراجع عن بعض المواقف.
تحدي الهيمنة الأمريكية: قوة الصين المتنامية
لطالما اعتبرت الصين “ورشة عمل العالم”، ولكنها تجاوزت هذا الدور التقليدي لتصبح قوة اقتصادية وتكنولوجية صاعدة. لم تعد بكين مجرد مُقلِّد، بل أصبحت رائدة في مجالات مثل السيارات الكهربائية، والطاقة النظيفة، والروبوتات، والتكنولوجيا الرقمية. هذا التحول يعكس استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، بالإضافة إلى سياسات حكومية طموحة تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي والريادة التكنولوجية.
السيطرة على المعادن النادرة: ورقة ضغط استراتيجية
تتمتع الصين بهيمنة شبه كاملة على سلسلة توريد المعادن النادرة، وهي مواد ضرورية لصناعة مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك المغناطيسات القوية، وشاشات الهواتف الذكية، والإلكترونيات المتقدمة. وقد استخدمت بكين هذه السيطرة كورقة ضغط في المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة، مهددة بتقييد الصادرات إلى الصناعات الأمريكية الحيوية. وفقًا لتقارير من مجموعة “روديوم غروب” (Rhodium Group)، فإن تقليل الاعتماد على الصين في هذا المجال سيستغرق سنوات.
الاعتماد المتبادل: سلاح ذو حدين
لا يقتصر الاعتماد المتبادل على المعادن النادرة، بل يمتد ليشمل قطاعات أخرى مثل الأدوية. تعتمد الولايات المتحدة على الصين في توفير مكونات ما يقرب من 700 دواء، مما يجعل هذا الملف حساسًا للغاية. في المقابل، تعتمد الصين على الولايات المتحدة في الحصول على بعض التقنيات المتقدمة، مثل المعالجات الدقيقة المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. هذا الاعتماد المتبادل يجعل من الصعب على أي من البلدين اتخاذ إجراءات أحادية الجانب قد تضر بمصالحهما.
التحولات في المشهد الاقتصادي العالمي
شهد الاقتصاد الصيني تباطؤًا ملحوظًا في عام 2023، مع ظهور أزمة في قطاع العقارات، وتراجع في سوق الأسهم، وارتفاع في معدلات البطالة بين الخريجين الجدد. ومع ذلك، فإن هذه التحديات لا تعني بالضرورة أن الصين على وشك الانهيار. بل إنها قد تمثل فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد، والتركيز على النمو المستدام، وتعزيز الابتكار.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر مؤشرات على أن الصين تكتسب نفوذًا متزايدًا في المنظمات الدولية، وتسعى إلى تشكيل نظام عالمي جديد يعكس مصالحها وقيمها. هذا التحول يثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها، الذين يرون في صعود الصين تهديدًا للنظام العالمي القائم.
الذكاء الاصطناعي: ساحة المنافسة الجديدة
يشهد مجال الذكاء الاصطناعي منافسة شرسة بين الولايات المتحدة والصين. في حين تحتفظ الولايات المتحدة بميزة في تطوير الرقائق المتقدمة اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، إلا أن الصين تحقق تقدمًا سريعًا في هذا المجال، وتستثمر بكثافة في البحث والتطوير. وقد حصلت الصين على عدد كبير من براءات الاختراع المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وتطلق نماذج جديدة تنافس النماذج الأمريكية. وفقًا لـ إيفان ميديروس، فإن الصين قد تكون قادرة على تعطيل سوق الذكاء الاصطناعي بالكامل.
نظرة مستقبلية
من الواضح أن العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين ستظل معقدة ومتوترة في المستقبل المنظور. ومع ذلك، فإن كلا البلدين يدركان أهمية الحفاظ على بعض أشكال التعاون، لتجنب المزيد من التصعيد والاضطرابات في الاقتصاد العالمي. من المتوقع أن تستمر المفاوضات بين البلدين، ولكن من غير المرجح أن يتم التوصل إلى اتفاق شامل في أي وقت قريب. يجب مراقبة تطورات سوق الطاقة النظيفة، وتكنولوجيا الروبوتات، والاتصالات الكمومية، حيث تسعى الصين إلى تحقيق الريادة في هذه المجالات. كما يجب متابعة التطورات السياسية في تايوان، والتي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في العلاقات بين البلدين.





