في أعقاب التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، المعروف بـ “الحرب القصيرة”، كشفت تحقيقات عن دور متزايد للتقنيات المدنية في العمليات العسكرية والاستخباراتية. لم تقتصر الضربة الإسرائيلية الأولية على استهداف قيادات عسكرية إيرانية رفيعة المستوى، بل اعتمدت بشكل كبير على أدوات تتبع ورصد متطورة، بما في ذلك تطبيقات المراسلة وأنظمة تحديد المواقع، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الحرب الإلكترونية وتأثيرها على الصراعات الإقليمية.

الضربة، التي باغتت طهران، استهدفت شخصيات بارزة في الحرس الثوري الإيراني والجيش، مثل قائد الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس الأركان محمد باقري. أشارت تقارير إلى أن هذا الاستهداف الدقيق أدى إلى تعطيل مؤقت في عملية اتخاذ القرار الإيرانية، وأخرّ رد فعلها الأولي. لكن اللافت في الأمر لم يكن مجرد القدرة على الوصول إلى هذه الشخصيات، بل الوسائل المستخدمة في تحديد مواقعهم.

استخدام التقنيات المدنية في العمليات العسكرية

وفقًا لمصادر إيرانية، لعب التتبع عبر الهواتف المحمولة دورًا حاسمًا في تحديد أهداف داخل إيران. تم استغلال البيانات الوصفية (metadata) المرتبطة بتطبيقات المراسلة، والتي تتضمن معلومات حول هوية المرسل والمستقبل والموقع والوقت، لبناء صورة شاملة عن أنماط التواصل والحركة. هذه المعلومات، على الرغم من أن التطبيقات تدعي توفير “تشفير تام بين الطرفين”، سمحت لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بتحديد مواقع الأفراد المستهدفين بدقة.

بالإضافة إلى ذلك، ساهم نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في هذا الصراع. تقنيات التشويش والتضليل التي استخدمتها إسرائيل أثرت على دقة الصواريخ الإيرانية، مما أدى إلى انحراف بعضها عن مسارها. ومع ذلك، نجحت صواريخ أخرى في الوصول إلى أهدافها داخل إسرائيل، مما يدل على أن الهجمات لم تكن فاشلة بالكامل.

تداعيات أبعد من الجبهة العسكرية

لم تقتصر تداعيات استخدام هذه التقنيات على الجبهة العسكرية المباشرة. ففي يونيو الماضي، اصطدمت ناقلة النفط “فرونت إيجل” بناقلة أخرى بالقرب من مضيق هرمز بعد تلقيها إشارات مواقع متضاربة، مما أدى إلى اشتعال النيران. وقد سجلت مئات السفن والطائرات الأخرى اضطرابات مماثلة في بيانات مواقعها، مما يشير إلى أن تأثير التشويش والتضليل امتد إلى الملاحة المدنية.

هذا المزج بين المدني والعسكري ليس أمرًا جديدًا بالنسبة لإسرائيل. فقد طورت إسرائيل فلسفة أمنية تقوم على تذويب الحدود بين المجالين، وتحويل الأدوات اليومية إلى أسلحة. وقد بدأت هذه الممارسة في الأراضي الفلسطينية، حيث تم اختبار أنظمة مراقبة متطورة وخوارزميات التعرف على الوجه والطائرات المسيرة قبل استخدامها في صراعات أخرى.

“خدعة الاستخدام المزدوج” وتصدير التكنولوجيا

تعتمد إسرائيل على ما يُعرف بـ “خدعة الاستخدام المزدوج”، وهي عملية إعادة تسويق التقنيات التي تم تطويرها لأغراض عسكرية أو أمنية على أنها منتجات مدنية. على سبيل المثال، يتم تقديم برمجيات تتبع الفلسطينيين عند الحواجز على أنها أنظمة لإدارة المرور في المدن الغربية. هذا يسمح للشركات الإسرائيلية بتصدير هذه التقنيات إلى دول أخرى دون قيود كبيرة، مما يثير مخاوف بشأن انتشارها واستخدامها في انتهاكات حقوق الإنسان.

تُعد شركة “بريف كام” مثالًا بارزًا على هذه الممارسة. طورت الشركة تقنية “ملخص الفيديو” التي تقوم بتحليل ساعات من تسجيلات كاميرات المراقبة واختصار الأحداث المهمة. تم استخدام هذه التقنية في البداية من قبل الجيش الإسرائيلي لمراقبة الفلسطينيين، ثم تم تسويقها لاحقًا كأداة لتحسين السلامة العامة في المدن حول العالم. وقد استحوذت شركة كانون اليابانية على “بريف كام” في عام 2018، مما ساهم في انتشار هذه التقنية على نطاق أوسع.

شركة “إن إس أو” (NSO Group)، صاحبة برنامج “بيغاسوس” للتجسس، هي مثال آخر. حاولت الشركة تقديم نفسها كمنقذ تقني خلال جائحة كورونا، من خلال تطوير نظام تعقب للمصابين. لكن سرعان ما انكشف أن الشركة كانت تجمع بيانات شخصية حساسة، وأن نظامها قد تم اختراقه. هذا أثار جدلاً واسعًا حول الخصوصية وأمن البيانات.

المستقبل والرقابة الدولية

تُظهر هذه التطورات الحاجة إلى رقابة دولية أكثر صرامة على تجارة التقنيات مزدوجة الاستخدام. على الرغم من وجود اتفاقيات مثل “واسنار”، إلا أن هناك ثغرات تسمح للشركات الإسرائيلية بتصدير تقنيات حساسة دون قيود كبيرة. إسرائيل ليست عضواً في “واسنار”، وتعتمد على قوانين محلية غالبًا ما تكون غير كافية لحماية الخصوصية وحقوق الإنسان.

من المتوقع أن تستمر إسرائيل في تطوير وتسويق هذه التقنيات، وأن تبحث عن طرق جديدة للالتفاف على القيود الدولية. ما يجب مراقبته في المستقبل القريب هو رد فعل المجتمع الدولي على هذه الممارسات، وما إذا كانت ستتخذ خطوات لفرض رقابة أكثر فعالية على تجارة التقنيات مزدوجة الاستخدام. كما يجب متابعة التطورات القانونية المتعلقة بانتهاكات الخصوصية وحقوق الإنسان المرتبطة بهذه التقنيات، وما إذا كانت ستؤدي إلى محاسبة الشركات والأفراد المسؤولين.

شاركها.