• ميلاد الأمل من رماد الحرب

في خضم التحديات التي تواجه السودان، يبرز مشروع مبتكر يهدف إلى تقديم الدعم النفسي باستخدام الذكاء الاصطناعي. هذا المشروع، الذي يُعرف بـ “الطبيب الآلي النفسي”، يسعى إلى توفير تشخيص أولي للاضطرابات النفسية وتقديم برامج علاجية مبسطة، في محاولة للتغلب على نقص الخدمات النفسية المتوفرة. يمثل هذا التطور خطوة مهمة نحو دمج التكنولوجيا في مجال الصحة النفسية في المنطقة.

انطلقت فكرة هذا المشروع من رحم المعاناة التي خلفها النزاع في السودان، حيث لاحظ القائمون عليه الحاجة الماسة إلى دعم نفسي متاح للجميع. يهدف النظام إلى تقديم مساعدة أولية للأفراد الذين يعانون من مشاكل نفسية، وتوجيههم نحو العلاج المناسب إذا لزم الأمر. ويأتي هذا في وقت يشهد فيه السودان أزمة متفاقمة في مجال الصحة النفسية، بسبب الظروف القاسية التي يعيشها السكان.

كيف يعمل الطبيب الآلي النفسي؟

يعتمد الطبيب الآلي النفسي على نظام ذكي مصمم لفهم الأعراض النفسية وتحليلها. يبدأ النظام بطرح سلسلة من الأسئلة القصيرة والمباشرة على المستخدم، تتعلق بمزاجه، وأنماط نومه، وعاداته الغذائية، ومستويات القلق التي يعاني منها. تُجمع هذه الإجابات ثم تُحلل باستخدام قواعد منطقية وبرمجية متطورة، تم بناؤها بالاعتماد على المعرفة المتراكمة في مجال علم النفس الإكلينيكي.

تمت صياغة قاعدة المعرفة الخاصة بالنظام لتغطي 39 اضطرابًا نفسيًا شائعًا، وتحويلها إلى لغة منطقية يمكن للنظام فهمها ومعالجتها. تتيح هذه القاعدة للنظام التفكير بطريقة مشابهة للطبيب البشري، والوصول إلى تشخيص مبدئي دقيق في معظم الحالات. ولضمان موثوقية التشخيص، خضع النظام لعدة اختبارات ومقارنات مع تشخيصات أطباء نفسيين متخصصين.

من فكرة إلى منهج علمي

لم يكن تطوير الطبيب الآلي النفسي مجرد عملية برمجية، بل كان رحلة بحث علمي دقيقة. تم تحديد ثلاثة محاور أساسية للعمل: الهدف، والقاعدة المعرفية، ومنهجية التطوير. الهدف الرئيسي هو ابتكار نظام سهل الاستخدام ومتاح للجميع، بغض النظر عن خلفيتهم التعليمية أو خبرتهم في مجال الصحة النفسية.

القاعدة المعرفية: اعتمدت على أحدث الأبحاث والدراسات في علم النفس الإكلينيكي، مع التركيز على الاضطرابات الأكثر شيوعًا في المجتمع السوداني. منهجية التطوير: تضمنت مزيجًا من المنهج التحليلي والمنطقي، بالإضافة إلى تجارب ميدانية مكثفة، ومقارنة نتائج النظام بتشخيصات الأطباء النفسيين.

تضمنت عملية الاختبار عدة مراحل، بما في ذلك اختبار اللغة للتأكد من أن الأسئلة واضحة ومفهومة للمستخدم العادي، واختبار الأداء لمحاكاة أعراض واقعية وتقييم قدرة النظام على التشخيص، واختبار المقارنة لتقييم دقة النظام وموثوقيته.

الأمان النفسي والسرية

في مجتمع لا يزال يعاني من وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية، تم إيلاء اهتمام خاص لقضايا الأمان والسرية. لا يطلب النظام أي بيانات شخصية من المستخدم، ويتيح له التعبير عن مشاعره وأفكاره بحرية تامة، دون خوف من الحكم أو التمييز. وبهذا المعنى، يمثل النظام مساحة آمنة للحوار مع الذات، وخطوة نحو التغلب على الحواجز النفسية.

يُعد هذا الجانب بالغ الأهمية، خاصة في سياق الأزمات والنزاعات، حيث يتردد الكثير من الأشخاص في طلب المساعدة النفسية بسبب الخوف من الوصم أو فقدان الخصوصية. إن توفير نظام آلي يضمن السرية التامة يمكن أن يشجع المزيد من الأشخاص على التوجه نحو العلاج، وبالتالي تحسين صحتهم النفسية ورفاهيتهم.

ما بعد التشخيص

لا يقتصر دور الطبيب الآلي النفسي على التشخيص فقط، بل يمتد ليشمل تقديم برامج علاجية مبسطة، تعتمد على مبادئ العلاج السلوكي المعرفي (CBT). يهدف النظام إلى مساعدة المستخدم على مواجهة أفكاره وسلوكياته السلبية، وتطوير استراتيجيات للتكيف مع الضغوط النفسية، وتحسين نوعية حياته.

يُقدم النظام هذه البرامج العلاجية على شكل تمارين عملية ونصائح إرشادية، مصممة خصيصًا لتلبية احتياجات كل مستخدم. ويراقب النظام تقدم المستخدم، ويقدم له الدعم والتشجيع المستمر، لمساعدته على تحقيق أهدافه العلاجية. إلا أن النظام يظل أداة مساعدة، ولا يغني عن استشارة الطبيب النفسي المتخصص.

من المتوقع أن يتم الانتهاء من المرحلة النهائية من اختبارات النظام خلال الربع الأول من عام 2026، قبل إطلاقه بشكل رسمي في السودان. يواجه المشروع تحديات تتعلق بتوافر البنية التحتية التكنولوجية، والوعي بأهمية الصحة النفسية في المجتمع، والحصول على التمويل اللازم للاستمرار في تطويره. تعتبر هذه التحديات مقيدات رئيسية، والتي ستؤثر بشكل كبير على نجاح المشروع على المدى الطويل.

شاركها.