يشهد الأمن الأوروبي تحولاً ملحوظاً مع عودة الحديث عن التجنيد الإجباري في عدة دول. يأتي هذا التطور في ظل تزايد المخاوف من المواجهة المحتملة مع روسيا، كما صرح قائد الأركان الفرنسية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية في أوروبا الشرقية. هذه النقلة تعكس استراتيجية جديدة للدول الأوروبية لتعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية.
تزايدت الدعوات إلى إعادة النظر في سياسات التجنيد في أوروبا، خاصةً بعد الحرب في أوكرانيا. حيث أعلنت عشر دول في الاتحاد الأوروبي بالفعل عن وجود خدمة إلزامية للرجال، بدءاً من النمسا وصولاً إلى فنلندا. ألمانيا تستعد لإرسال استبيانات عسكرية للشباب في سن 18 عامًا العام المقبل، إلا أن الدستور الألماني يمنع التجنيد الإجباري للنساء، مما يجعل الخدمة بالنسبة إليهن طوعية.
عودة التجنيد الإجباري: هل هي ضرورة أمنية؟
النقاش حول التجنيد الإجباري ليس جديدًا، لكنه اكتسب زخمًا متزايدًا في الآونة الأخيرة. وفقًا لقائد الأركان الفرنسية، فإن “تقبل فكرة فقدان أبنائنا ضروري لحماية هويتنا”. هذا التصريح يعكس قلقًا عميقًا بشأن استعداد الدول الأوروبية لمواجهة سيناريوهات الحرب المحتملة.
في دول الشمال، يعتبر الخدمة العسكرية مسؤولية جماعية. تدرج الدنمارك والسويد النساء في التجنيد الإجباري، بينما كانت النرويج أول حليف في الناتو يفعل ذلك. هذا النهج يعكس رؤية متساوية للجميع في تحمل مسؤولية الدفاع عن الوطن.
وفي أوكرانيا، الوضع مختلف تمامًا. تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 70 ألف امرأة يخدمن في الجيش الأوكراني، منها 20 ألفًا في أدوار قتالية. هذا العدد يقارب حجم الجيوش البلجيكية والهولندية مجتمعة، مما يدل على الدور الحيوي الذي تلعبه المرأة في الدفاع عن بلادها في ظل الظروف الراهنة.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية
لا يخلو الحديث عن التجنيد الإجباري من التحديات. من أبرز هذه التحديات هو الضغط المالي الذي يفرضه بناء جيوش كبيرة على ميزانيات الدولة، مما قد يؤدي إلى تقليص الإنفاق على قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والابتكار. ولكن، كما برهنت أوكرانيا، فإن ثمن الحفاظ على السيادة الوطنية قد يكون باهظًا.
يرى بعض المحللين أن حلفاء الناتو قد يجدون أنفسهم في وضع يسمح لهم بمناقشة هذه القضية فقط لأن أوكرانيا تصمد. فلو استسلمت أوكرانيا، لما كانت الحرب مجرد تهديد على حدودنا؛ بل كانت ستصبح واقعًا ملموسًا. هذه النقطة تثير تساؤلات حول مدى استعداد الدول الأوروبية لتحمل مسؤولياتها في الدفاع عن أمنها القومي.
إن إعادة النظر في سياسات الخدمة الوطنية تأتي في سياق تلاشي الذاكرة الجماعية لأهوال الحروب، والتغيرات الديموغرافية التي تشهدها أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف بشأن تأثير التجنيد الإجباري على الاقتصاد، وقدرة الدول على استيعاب عدد كبير من المجندين.
التركيز على بناء قدرات دفاعية قوية يتزامن مع جهود دبلوماسية لتهدئة التوترات مع روسيا. ومع ذلك، فإن هذه الجهود لا تلقى نجاحًا كبيرًا حتى الآن، مما يزيد من احتمالية اتخاذ خطوات أكثر جذرية في مجال الدفاع والأمن.
نماذج مختلفة في أوروبا
تختلف أساليب التجنيد الإجباري من دولة إلى أخرى. ففي بعض الدول، يستمر التجنيد لفترة محدودة، بينما في دول أخرى، يتم استدعاء المجندين للتدريب بشكل دوري. هناك أيضًا دول تعتمد على نظام الخدمة المدنية كبديل للخدمة العسكرية، مما يسمح للشباب بالمساهمة في خدمة المجتمع بطرق أخرى.
تتراوح مدة الخدمة الإلزامية بين عدة أشهر وعدة سنوات، حسب الدولة واحتياجاتها الدفاعية. بينما تسعى بعض الدول إلى تقليل مدة الخدمة، تفضل دول أخرى الحفاظ على نظام طويل الأمد لضمان تدريب المجندين بشكل كافٍ.
التطورات الأخيرة حول الاستعداد العسكري تشمل أيضًا زيادة الإنفاق الدفاعي في العديد من الدول الأوروبية. وتسعى هذه الدول إلى تحديث ترساناتها العسكرية، وتطوير قدراتها التكنولوجية، لمواكبة التهديدات المتزايدة.
من المهم ملاحظة أن النقاش حول التجنيد الإجباري ليس محصورًا في الدول الأعضاء في الناتو، بل يشمل أيضًا دولًا أخرى في أوروبا. فالسويد وفنلندا، على سبيل المثال، لم تكن عضوتين في الناتو لفترة طويلة، لكنهما كانتا من أوائل الدول التي أعادت النظر في سياسات التجنيد لديها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
الدول الأوروبية تدرس أيضًا خيارات أخرى لتعزيز أمنها، مثل زيادة التعاون العسكري مع الشركاء الدوليين، وتطوير القدرات الدفاعية المشتركة. هذه الخيارات قد تكون أكثر فعالية من حيث التكلفة والوقت، وقد تساعد على تخفيف الضغط على ميزانيات الدول.
يبدو أن العام 2026 سيكون حرجًا، حيث من المتوقع أن تقدم ألمانيا تقييمًا شاملاً لنتائج الاستبيانات العسكرية التي أرسلتها إلى الشباب. هذا التقييم سيوفر نظرة ثاقبة حول مدى استعداد الجيل الجديد للخدمة العسكرية، وسيشكل الأساس لقرارات مستقبلية بشأن التجنيد الإجباري. وعلى الرغم من أن مسألة التجنيد الإجباري لا تزال قيد النقاش، إلا أن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة تجعل من الصعب تجاهل الحاجة إلى زيادة الاستعداد الأمني في أوروبا. من الضروري مراقبة التطورات في أوكرانيا، وردود فعل الدول الأوروبية، لتقييم المسار الذي ستسلكه القارة في السنوات القادمة.






