خسر الجنيه الاسترليني موقعه كالعملة الأبرز دولياً بعد حربين مدمرتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر وألحقتا خسائر فادحة بالاقتصاد البريطاني. غير أن أحد العوامل الرئيسية التي أسهمت في إسدال الستار على تلك الحقبة من تاريخ الاقتصاد العالمي كان قدرة الولايات المتحدة والدولار على سد الفراغ.
بدأ النفوذ البريطاني في التراجع بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الإمبراطورية الأميركية الوليدة لم تكن جاهزة لبسط نفوذها عالمياً آنذاك.
عندما ألقت الحرب أوزارها عام 1918، كان عمر الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأميركي) خمس سنوات فقط، وكانت قوى “الانعزالية” السياسية قوية بما فيه الكفاية لمنع الرئيس ودرو ويسلون ضمّ بلاده إلى منظمة عصبة الأمم رغم الدور الكبير الذي لعبه في تأسيسها.
اختلف الأمر تماماً عام 1945؛ عقد الحلفاء المنتصرون مؤتمراً بمنتجع “بريتون وودز” في أميركا كرّس الدور العالمي للدولار منذ ذلك التاريخ.
سطوة العملة الخضراء
تسيطر العملة الخضراء على التعاملات المالية والاحتياطات رغم الأزمات الكبيرة التي عصفت بالاقتصاد العالمي منذ عام 2007 وحتى الآن. يطغى الدولار على على تعاملات التجارة ويشكل نحو 60% من إجمالي الودائع والقروض في العالم. يرتبط كل هذا بقوة الاقتصاد الأميركي ودور الولايات المتحدة كقوة سياسية وعسكرية عظمى، ذلك لأن العملات العالمية مثل الدولار واليورو مشاريع سياسية، لا يترك مصيرها للأسواق وحسب.
رغم كل ما سبق، فإن هناك مؤشرات أخرى واضحة تدل على تراجع هذا النفوذ. يشير تقرير لبنك “جيه بي مورغان” الأميركي إلى انخفاض نسبة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية العالمية إلى أدنى مستوياتها منذ نحو ثلاثة عقود، بالإضافة إلى التراجع المستمر في حصة المستثمرين الأجانب من سوق سندات الخزانة الأميركية.
وخلال مؤتمر اقتصادي هذا الأسبوع، قال كين غريفيث، مؤسس شركة سيتاديل كابيتال الاستثمارية، إن الإقبال الكبير على شراء الذهب هذا العام يعود إلى رغبة المصارف المركزية العالمية والمستثمرين في تنويع أصولهم الآمنة بعيداً عن الدولار بصورة أكبر. يشاركه هذا الرأي راي داليو، أحد أشهر المستثمرين في العالم.
تأثير الحرب التجارية
في ذروة الأزمة التي أحدثتها “الحرب التجارية” التي شنّها الرئيس دونالد ترمب هذا العام، كان داليو يقول في كل مكان إن أكبر خطر يواجه الاقتصاد الأميركي والدولار هو الارتفاع الكبير في مستوى الدين العام وعجز الموازنة، وليس تعريفات ترمب الجمركية. في آخر لقاءاته التلفزيونية هذا الأسبوع، اعتبر أن مستوى الدين الأميركي قد بلغ منعطفاً خطيراً.
اقرأ أيضاً: الدولار تحت الضغط مع دخول واشنطن أول إغلاق حكومي منذ 7 سنوات
لا تكمن الخطورة على الإطلاق في قدرة الولايات المتحدة على السداد، لكن في الآثار الاقتصادية المترتبة على ارتفاع خدمة الدين، بما في ذلك انخفاض حاد في الإنفاق الحكومي أو ارتفاع معدل التضخم.
المشكلة الأخرى هي الانقسام الحاد في السياسية الداخلية ومحاولات ترمب المستميتة لتقويض استقلال الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع حاد في ثقة المستثمرين في الاقتصاد الأميركي.
السيناريو الأكثر كارثية هو الفشل في رفع سقف الاقتراض الحكومي، وهو ما يعني عملياً التخلف عن سداد الديون. في عام 2011، وصل الكونغرس والبيت الأبيض إلى اتفاق قبل يومين من الموعد النهائي.
الدولار يستفيد من غياب البدائل
بيد أن أي تراجع للدولار لا يعني خسارته لدوره العالمي في حال عدم توفر البديل (تذكر درس الجنيه الاسترليني). لازلت أذكر الحماسة التي رافقت إطلاق اليورو قبل أكثر من 20 عاماً بوصفه المنافس الحقيقي لهمينة الدولار. انهار هذا الحلم سريعاً مع أزمة الديون السيادية التي بدأت باليونان وكشفت عن أن اتحاداً نقدياً دون سياسة مالية موحدة قد يشكل تهديداً مستمراً للاستقرار الاقتصادي.
ماذا عن اليوان الصيني؟ رغم تعاظم دور الصين في التجارة العالمية منذ مطلع القرن الحالي، فإن اليوان يشكل أقل من 10% من حجم سوق العملات.
اقرأ أيضاً: هيمنة الدولار الرقمي.. هل تستنهض أوروبا؟
تاريخ العملات العالمية لم يبدأ بالدولار، ولن ينتهي به. غير أن السيناريو الأقرب للواقع هو ما يراه كينيث روغوف، كبير الاقتصاديين الأسبق في صندوق النقد الدولي، الذي تبنأ بأن هيمنة الدولار قد تواجه تهديداً من “سلة” من المنافسين، من بينهم العملات المشفرة وعدد من العملات العالمية، وليس من مصدر واحد.
“عملة أميركا ومشكلة العالم”
حتى ذلك الحين، نعيش في العالم الذي وضعه جون كونولي، وزير الخزانة الأميركي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. في عام 1971، أعلن نيكسون إنهاء العمل باتفاق “بريتون وودز” الذي ربط أسعار صرف العديد من العملات بالدولار، مع تعهد الحكومة الأميركية بتحويله إلى ذهب عند الطلب بمقدار 35 دولاراً لكل أونصة.
اشتكى وزراء مالية عدد من الدول الكبرى لكونولي، الذي رد عليهم قائلا: “الدولار عملتنا نحن، لكنه مشكلتكم أنتم!”.