تُعد الانقسامات الطائفية من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، فهي لا تهدد فقط التماسك الاجتماعي، بل تفتح الباب أمام صراعات طويلة الأمد تؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي. وفي لبنان، ظهر تنظيم جنود الرب كنموذج حي للخطورة الناتجة عن استغلال الانقسامات الطائفية، حيث وظف الدين لأغراض سياسية وأيديولوجية وأثر بشكل مباشر على السلم الأهلي. تكشف هذه الحالة مدى قدرة الانقسامات الطائفية على تحويل المعتقدات الروحية إلى أدوات للصراع والعنف، بما يعكس تحذيرات التاريخ المستمرة من مغبة الانقسام المجتمعي.

النشأة والاستقطاب

تأسس تنظيم جنود الرب في الأشرفية ببيروت عام 2019، واستقطب شباناً مهمشين ومساجين سابقين وأفراداً من خلفيات اقتصادية واجتماعية ضعيفة. اعتمد التنظيم على مظهر يوحي بالقوة، من خلال ارتداء ملابس سوداء موحدة ورفع شعارات دينية، لكنه مارس أنشطة عنيفة ضد الحريات الفردية. شملت هذه الأنشطة الهجوم على مقاهٍ وحفلات موسيقية ومعارض فنية بذريعة “الدفاع عن القيم المسيحية”.

استغلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية للفئات الهشة يعكس استراتيجية معتادة للجماعات المتطرفة، إذ تمنح هذه الظروف الشباب شعورًا زائفًا بالانتماء والبطولة، مما يسهل توظيفهم في أعمال عنف مباشرة أو غير مباشرة. هذا النمط ليس محصوراً في لبنان فقط، بل شهدته العديد من المجتمعات التي تعاني من هشاشة الدولة وضعف المؤسسات التعليمية والاقتصادية.

الطائفية كسلاح للصراع

يعكس التنظيم الوجه الأخطر للطائفية، إذ تُستغل الانتماءات الدينية والمذهبية كأداة للترهيب وتقويض الهوية الوطنية الجامعة. فالطائفية لا تؤثر فقط على النسيج الاجتماعي، بل تضعف الدولة وتفتح الباب أمام تدخلات خارجية قد تستغل الانقسامات الداخلية لمصالحها الخاصة.

تجربة لبنان تثبت أن المجتمعات المنقسمة طائفياً أكثر عرضة للصراعات المستمرة، كما تضعف فرص التنمية المستدامة. وعندما تطغى الانقسامات الطائفية على الهوية الوطنية، تصبح دولة القانون هشّة، وتزداد احتمالات النزاعات المسلحة، ويصبح الحوار الاجتماعي صعبًا، كما أن الاقتصاد الوطني يتعرض لضغوط كبيرة نتيجة الفوضى السياسية والاجتماعية.

الأسباب الاجتماعية والاقتصادية

لا يمكن فهم ظهور مثل هذه التنظيمات دون النظر إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية. البطالة والفقر وانعدام الفرص تجعل الشباب فريسة سهلة للخطابات المتطرفة. الشعور بالإقصاء الاجتماعي والاقتصادي يُضاعف الميل إلى الانخراط في مجموعات تقدم الدعم المعنوي والمادي، حتى لو كانت أنشطتها عنيفة أو متطرفة.

إضافة إلى ذلك، فإن الدعم المالي والسياسي، ولو كان محدوداً، يسهم في تحويل جماعات صغيرة إلى ميليشيات منظمة قادرة على فرض نفوذها بالقوة. هذه الظاهرة تُشير إلى أن الانقسامات الطائفية ليست مجرد مسألة ثقافية، بل مشكلة عميقة متجذرة في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع.

التداعيات على المجتمع والاستقرار

تشمل المخاطر الناتجة عن الانقسامات الطائفية عدة أبعاد، منها تهديد الحريات الفردية، وزعزعة الاستقرار الأمني، وتشويه صورة البلد على الصعيد الداخلي والدولي، وتقويض المناخ الاستثماري والسياحي. التنظيمات المتطرفة مثل جنود الرب توضح أن الانقسامات الطائفية يمكن أن تنتج مجموعات صغيرة لكنها مؤثرة، قادرة على إثارة الفتن والاقتتال الداخلي إذا لم تُعالج بسرعة.

وعلى المستوى الدولي، تعتبر الانقسامات الطائفية مؤشرًا على هشاشة الدولة، ما يجعلها هدفًا للتدخلات الإقليمية والدولية. الدول التي تفشل في معالجة التوترات الطائفية تصبح ساحة مفتوحة لمصالح خارجية قد تزيد من التوترات وتطيل أمد الأزمات الإنسانية.

تأثير الانقسامات على الشباب

الشباب هم الفئة الأكثر تأثرًا بالانقسامات الطائفية. الانتماء المذهبي الضيق يحجب الفرص ويحد من الانخراط في المجتمع المدني. كما أن تأثير المجموعات المتطرفة على الشباب لا يقتصر على الاستقطاب للأنشطة العنيفة، بل يشمل تشكيل وجهات نظر قائمة على الكراهية والتمييز، ما يخلق جيلًا جديدًا يصعب دمجه في المجتمع المستقبلي.

تعليم الشباب على قيم التسامح والمواطنة الفاعلة ضرورة قصوى. من خلال التعليم المدني، يمكن تمكينهم من التفكير النقدي، وفهم قيمة التعددية، وكيفية التعامل مع الخلافات دون اللجوء للعنف أو التمييز الطائفي.

استراتيجيات المواجهة

مواجهة خطر الانقسامات الطائفية تحتاج إلى مقاربة شاملة، تتجاوز الإجراءات الأمنية التقليدية. فإلى جانب قوانين صارمة وأجهزة أمنية فعالة، يجب معالجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تساعد على نشوء التطرف، مثل تعزيز التعليم، وتوفير فرص العمل، ومعالجة الفقر، وتعزيز العدالة الاجتماعية.

كما أن نشر خطاب ديني معتدل يركز على التسامح والتعايش أمر ضروري، إضافة إلى دور المؤسسات الدينية في مواجهة التطرف الديني وإعادة تعريف الدين كأداة سلام لا كأداة للصراع. كذلك يلعب الإعلام دوراً محورياً في توعية المجتمع، وكشف مخاطر الطائفية، وتسليط الضوء على نماذج إيجابية للتعايش بين الطوائف المختلفة.

الخلاصة

يشكل تنظيم جنود الرب جرس إنذار واضح حول خطورة الانقسامات الطائفية، إذ يمكن لمجتمع هش ومتعدد الطوائف أن يتحول إلى ساحة لصراعات مذهبية مستمرة إذا لم تُتخذ خطوات فعالة لمواجهتها. الحل يكمن في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وبناء دولة المواطنة، وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش. عبر هذه السياسات، يمكن حماية السلم الأهلي وضمان مستقبل مستقر وآمن لجميع مكونات المجتمع، بعيداً عن النزاعات الطائفية التي تهدد وحدة الأمة واستقرارها.

 

شاركها.