يترقب العالم وعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإرساء صفقة سلام في غزة، ويخضع هذا الوعد لامتحان صعب يتمثل باجتماع ترمب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن اليوم.
من المتوقّع ألاّ يكون اللقاء عادياً، أو سهلاً، نظراً لجوهرية الموضوع لكافة الأطراف -الأميركي والإسرائيلي والفلسطيني والعربي والعالم- وهو يأتي في أعقاب اعتراف غير مسبوق بالدولة الفلسطينية في أروقة الأمم المتحدة، كما أنه يُعقد في ظلّ أجواء مشحونة بين الشخصين أججتها ضربة قطر.. فما هي السيناريوهات المتوقعة، وما هي خيارات دول المنطقة، لاسيما الخليج العربي، في حال عدم الوصول لاتفاق واستمرار إسرائيل في حربها على غزة؟
تأثير ضربة قطر
أحدثت الضربة الإسرائيلية في التاسع من سبتمبر على وفد حركة حماس الفلسطينية في قطر استنكاراً دولياً، بما في ذلك طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من تل أبيب “الحذر”، وإعلانه لاحقاً أن مثل هذا العمل “لن يتكرر”.
رغم ذلك، فإن تداعيات هذه الضربة على “حليف كبير” لواشنطن يبدو أنها لن تقف عند أثارها المباشرة، بل قد تمتد تداعياتها لتطال معادلة عمرها عقود بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي؛ عنوانها “الطاقة مقابل الأمن”.
التعرُّض الإسرائيلي غير المسبوق لسيادة دولة خليجية، تضم إحدى أكبر القواعد الأميركية العسكرية خارج الولايات المتحدة، أعاد إلى الواجهة الحديث عن خيارات أمنية وسياسية واقتصادية، والتي كانت تصاعدت في حقبة جو بايدن قبل أن تخفت مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض.
هذه ليست المرة الأولى التي تخفق فيها واشنطن بتقديم الحماية عندما احتاجتها دول الخليج؛ فهناك أمثلة عدة:
· الاتفاق النووي مع إيران عام 2015: اعتبرت دول الخليج العربية أن الاتفاق بشأن القضية النووية همّشها وتجاهل المشكلة الرئيسية وهي تنامي نشاط طهران ونفوذها الإقليمي.
· هجمات عام 2019 على منشآت “أرامكو” في ابقيق التي خفّضت إنتاج النفط السعودي بشكل كبير لفترة وجيزة.
· هجمات في العام ذاته على ناقلات نفط قبالة سواحل الفجيرة في الإمارات.
· هجمات صاروخية شنتها جماعة الحوثي في اليمن على أبوظبي عام 2022.
فإذا لم يعد الاتفاق القديم يضمن الأمن، فما البدائل؛ أو على الأقل الخيارات؟
تعزيز التضامن الإقليمي
أول الخيارات الأساسية قد بدأ العمل عليه بالفعل؛ وهو تعزيز التضامن العربي والإسلامي، حيث استضافت قطر، عقب الضربة الإسرائيلية، ما وُصف بإحدى أنجح القمم لمجموعة الدول هذه في الآونة الأخيرة، إذ دقّ الاعتداء على قطر جرس الإنذار لباقي الدول المشاركة (عددها 57)، بما في ذلك الدول الخليجية الحليفة لواشنطن.
في هذا الصدد، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة قطر محمد المسفر أن القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة؛ “نجحت في لم الشمل العرب، لكن لم يصدر عنها ما يردع إسرائيل.. لذلك ما زال العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية”. كما أن القمة، بحسب المسفر؛ “لم تخرج بقرارات تنفذية قوية، إذ كان من المنتظر أن تفرض القمة حظراً جوياً على الطيران الاسرائيلي في أجواء العالم العربي، وأن يتم إلغاء الاتفاقيات بين إسرائيل ودول عربية، أو على الأقل أن تجمد العلاقات ويتم سحب السفراء منها، كما فعلت الدول اللاتينية”
بالإضافة إلى الدعوات للضغوط الاقتصادية على إسرائيل ومقاطعة منتجاتها، شهدت القمة حضور رؤساء دول ذات ثقل عسكري، مثل تركيا وباكستان ومصر والسعودية، بالإضافة لإيران، وتضامنهم الكامل مع الدوحة. كما وجّه قادة دول الخليج مجلس الدفاع المشترك لعقد اجتماع بهدف “تقييم الوضع الدفاعي لدول المجلس ومصادر التهديد في ضوء العدوان الإسرائيلي على دولة قطر الشقيقة، وتوجيه القيادة العسكرية الموحدة لاتخاذ الإجراءات التنفيذية اللازمة لتفعيل آليات الدفاع المشترك وقدرات الردع الخليجية”.
الحرب الدبلوماسية
من ضمن الخيارات السياسية القائمة أيضاً، تشديد الضغط على إسرائيل، عبر تزخيم الحملة السعودية “الناجحة” لاعتراف الدول، وفي مقدمتها الغربية، بدولة فلسطين.
وفقاً لرئيس مركز الخليج للأبحاث عبد العزيز بن صقر فإن “الحملة السعودية لدعم مشروع حل الدولتين قامت بتثبيت هذا المبدأ على الأجندة الدولية، وحاولت إغلاق الباب على المشاريع البديلة التي لا تضمن الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني”.
ويرى بن صقر أن “الرفض الإسرائيلي–الأميركي لهذا التحرك لا يمس شرعيته المستمدة من التأييد الدولي الكاسح. لذا فان المملكة العربية السعودية ازدادت في تمسكها بهذا المشروع بعد رد الفعل الإيجابي الواسع عالمياً، وخاصة من الدول الأوروبية الرئيسية”.
وبموازاة ذلك، يجب العمل على إعداد وتمويل حملة علاقات عامة في الدول العالم المؤثرة تُبرز الجرائم الإسرائيلية في غزة، والانتهاكات في الدول المجاورة، وفي مقدمتها سوريا ولبنان.
ويدخل في عُمق المواجهة أيضاً دعم الحكومتين السورية واللبنانية للنهوض بالبلدين الجارين لفلسطين المحتلة، والحفاظ على وحدة أراضيهما، وإنعاش اقتصادهما وحياة المواطنين فيهما، بما يقطع الطريق على تل أبيب لنشر عدم الاستقرار في المنطقة.
اتفاقيات إبراهيم
كانت إحدى فرضيات “اتفاقيات إبراهيم” أن إسرائيل ودول الخليج حلفاء للولايات المتحدة. لكن هذه النظرة قد تغيرت. فقد “أكدت الضربات على قطر ما يدركه الخليجيون بالفعل: لدى واشنطن، تأتي إسرائيل فوق أي طرف آخر”، وفق ما كتب خبيرا الاقتصاد زياد داوود ودينا إصفاندياري في تقرير حديث من “بلومبرغ إيكونوميكس”.
من هنا، فقد تكون إحدى أوراق الضغط المتاحة قطع دول اتفاقيات إبراهيم علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، أو تخفيض مستوى هذه العلاقات وتقليص المشاركة في بنود الاتفاقية. هذا التوجه سيف ذو حدّين، فقد يحثُّ ترمب على التدخل ووضع أُطُر واضحة للحافظ على الاتفاق الذي يتباهى بالوصول إليه خلال ولايته الأولى، أو قد يشكّل استفزازاً للرئيس الأميركي الذي يصعب التكهُّن بتصرفاته.
ويَعتبر بن صقر أن الدول التي لديها اتفاقيات مع إسرائيل “تقف في موقف سياسي وأخلاقي صعب ومحرج نتيجةً لجرائم إسرائيل، وهذا قد يدفعها لإعادة تقييم علاقاتها مع تل أبيب ربما دون ضجيج إعلامي. وللعلم فإن دول الاتفاقيات الإبراهيمية جمدت علاقاتها مع إسرائيل أو خفضت مستوى التمثيل الدبلوماسي”.
تنويع العلاقات
خلال السنوات الأخيرة، لاسيما إبان فترة بايدن الرئاسية، نجحت دول الخليج العربي في إحداث اختراق كبير على صعيد التوازن في علاقاتها بين الغرب والشرق.
تجلّى ذلك بشكل ملحوظ في تعزيز العلاقات الاستثمارية والتكنولوجية مع الصين، والنفطية مع روسيا من خلال تحالف “أوبك+”. ويشير تقرير “بلومبرغ إيكونوميكس” إلى أن ضربة الدوحة قد تنقل هذه العلاقات إلى المستوى الأمني والدفاعي وشراء الأسلحة.
ويُنوّه عضو جمعية الاقتصاد الأميركية علي الحازمي بأن دول الخليج على وجه العموم، والسعودية على وجه الخصوص، بدأت منذ فترة في تنويع علاقاتها الاقتصادية وعلاقات الطاقة، والبوصلة توازن ما بين الشرق والغرب، كما أن روسيا شريك اساسي ومهم لا سيما في “أوبك+”.
ويضيف أن البدائل متوفرة أمام الدول العربية والإسلامية؛ “فالصين تعتبر المصنع العالمي للسلع، وأميركا الجنوبية تُعد اليوم سلة غذاء العالم”.
لكن ذلك لا يعني التخلي عن الولايات المتحدة. إذ لا يمكن للخليج أن ينهي عقوداً من التشابك العسكري والاقتصادي والسياسي بين عشية وضحاها. كما أن علاقة حكام الخليج بترمب تتسم بالعمق وبالصراحة.
وقد أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في 16 سبتمبر من الدوحة، عن دعم بلاده القوي لأمن قطر وسيادتها، بينما صرحت وزارة الخارجية القطرية أن العلاقات مع أميركا استراتيجية خاصة على المستوى الدفاعي.
ويفيد أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برتسون برنارد هيكل أن دول الخليج “لا تستطيع شراء أسلحة من روسيا أو الصين عملياً، لأن بنيتها العسكرية الحالية مبنية على أساس أميركي”.
استمالة واشنطن
تعويلاً على الزخم الاستثماري لزيارة ترمب في مايو إلى دول الخليج، قد تكثف هذه الدول، بما في ذلك صناديقها السيادية جهودها لكسب ود واشنطن، بحيث يكون الهدف النهائي تقريب البيت الأبيض من الأولويات العربية، وإبعاده قدر الإمكان عن تهور الحكومة الإسرائيلية التي أصبحت في أكثر من مناسبة عبئاً على رؤية ترمب للسلام في المنطقة وازدهارها .
لكن بحسب “بلومبرغ إيكونوميكس”، فإن مثل هذه المحاولة لن تكون الأولى لمثل هذه المناورة، ففي 2017، استكشفت الإمارات سبل التعويل على فريق ترمب لإقناع روسيا بتخفيف العلاقات مع إيران، ولم ينجح ذلك؛ فكيف بالحال مع إسرائيل. تبدو الاحتمالات أدنى نظراً إلى انحياز الإدارة الأميركية الراسخ لمصالح وأولويات تل أبيب.
سلاح الطاقة
عودٌ على بدء، علاقة أميركا والخليج تطغى عليها معادلة عنوانها “الطاقة مقابل الأمن”، ويتساءل خبراء “بلومبرغ إيكونوميكس”: “إذا لم تعد واشنطن تضمن أمن الخليج، فلماذا تسمح المنطقة بتدفق النفط دون قيد أو شرط؟”.
هناك سابقة بهذا المجال، تتمثل بقطع دول الخليج إمدادات النفط عام 1973 عن الدول الداعمة لإسرائيل. أعادت تلك الصدمة تشكيل الأسواق العالمية، بل ساهمت بإعادة هيكلة السياسة في الولايات المتحدة.
من شأن تكرار ذلك أن يُزعزع الاقتصاد العالمي، إذ ما تزال المنطقة مصدراً أساسياً للطاقة، برغم صعود مصادر الطاقة المتجددة والنفط الصخري الأميركي. مع ذلك، تختلف الظروف عن سبعينيات القرن الماضي، إذ تعتمد دول الخليج حالياً على عائدات النفط لتمويل الإنفاق على مشاريعها العملاقة وتنمية اقتصاداتها، ما يجعل تقييد الصادرات مكلف سياسياً ومحفوف بالمخاطر الاجتماعية.
ويستبعد هيكل احتمال فرض دول الخليج حظراً على صادرات النفط والغاز إلى الغرب؛ “فهذا خيار غير واقعي. حيث أدى الحظر النفطي الأخير عام 1973 في نهاية المطاف إلى اكتشاف الدول الغربية مصادر أخرى للنفط والغاز، مما أدى إلى انخفاض الأسعار لعقدين تقريباً (من 1985 إلى 2004). لذلك، فإن استخدام النفط أو الغاز كسلاح سياسي أمر غير واقعي وغير قابل للتطبيق”.
في ظل كافة هذه الخيارات، تقف دول الخليج أمام جملة سيناريوهات سياسية ودبلوماسية واقتصادية، وحتى على صعيد تنويع مصادر شراء الأسلحة. تبقى المعادلة الخطرة بين عدم الاعتماد الكامل أمنياً على الولايات المتحدة وحدها، وبين استفزاز ترمب الذي قد يكون أخطر لأكثر من سبب وعلى أكثر من صعيد.