منذ عقود، ارتبط اسم الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بما يُعرف بـ”المهام المزدوجة”: استقرار الأسعار عبر السيطرة على التضخم، وتحقيق أقصى قدر من التوظيف في سوق العمل. هذان الهدفان كانا بمثابة القاعدة الذهبية التي تَستند إليها السياسة النقدية، من أيام رئيس الفيدرالي آلان غرينسبان وصولاً إلى جيروم باول.
لكن هناك بند ثالث ظلّ شبه منسي في القانون الأميركي منذ تعديل عام 1977: أن يسعى الفيدرالي أيضاً إلى الحفاظ على معدلات “فائدة طويلة الأجل” معتدلة. هذا البند، الذي طالما اعتُبر نتيجة طبيعية لتحقيق الاستقرار السعري والنمو الاقتصادي، يعود اليوم إلى الواجهة مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، بعدما أشار إليه ستيفن ميران في جلسة استماع بالكونغرس عقب تعيينه عضواً في مجلس الفيدرالي.
البيت الأبيض يهمس.. والفيدرالي يسمع؟
إعادة إحياء هذا النص لم تمر مرور الكرام في وول ستريت. فالمحللون سرعان ما قرأوا في ذلك محاولة صريحة من البيت الأبيض لفتح الباب أمام تدخل مباشر في سوق الدين، بما يسمح بخفض عوائد السندات طويلة الأجل التي تحدد كلفة الرهن العقاري للمنازل، وقروض الشركات، بل وحتى كلفة خدمة الدين العام الأميركي الذي تجاوز 37 تريليون دولار.
بيل دادلي: “الفيدرالي” تحت الحصار.. لكنه سيصمد
من الحرب إلى “التيسير الكمي”
هذا النقاش ليس جديداً في تاريخ الفيدرالي. ففي أربعينيات القرن الماضي، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، فرضت الحكومة الأميركية بالتعاون مع الفيدرالي سقفاً صارماً لعوائد السندات. كانت العوائد قصيرة الأجل محددة عند 0.375%، فيما جرى تثبيت العوائد طويلة الأجل عند 2.5%. وقد التزم الفيدرالي بشراء أي كمية من السندات عند الحاجة للحفاظ على هذه المستويات. النتيجة كانت تمويلاً رخيصاً للحرب، لكن أيضاً تضخماً مرتفعاً في ما بعد، ما اضطُر الفيدرالي ووزارة الخزانة إلى توقيع “اتفاقية 1951” التي أعادت قدراً من الاستقلالية للبنك المركزي.
وفي بداية الستينات، عادت فكرة استهداف العوائد على المدى الأبعد في عملية أطلق عليها اسم “تويست”. قام الفيدرالي آنذاك ببيع سندات قصيرة الأجل وشراء سندات طويلة الأجل، في محاولة لإبقاء أسعار الفائدة القصيرة مستقرة، مع خفض نظيرتها الطويلة لدعم الاستثمار والإسكان. كانت التجربة محدودة نسبياً، لكنها شكّلت دليلاً على أن الفيدرالي قادر على إدارة أجزاء مختلفة من منحنى العائد وفقاً للأولويات الاقتصادية.
كل ذلك يختلف جذرياً عمّا جرى بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. حينها، وصلت أسعار الفائدة القصيرة إلى الصفر تقريباً، ولم يعد أمام الفيدرالي أدواته التقليدية نفعٌ. عندها ابتكر أداة جديدة سُميّت: “التيسير الكمي”. بدأ البرنامج الأول بشراء أصول تجاوزت قيمتها 1.7 تريليون دولار، شملت سندات حكومية ورهوناً عقارية. الهدف كان إنقاذ البنوك وخفض تكاليف الاقتراض. تلت ذلك جولات أخرى: برنامج ثانٍ بحجم 600 مليار دولار، ثم برنامج ثالث مفتوح الزمان والحجم بلغ 85 مليار دولار شهرياً.
على إثر كل ذلك، وبحلول منتصف العقد الماضي، تضخمت ميزانية الفيدرالي إلى أكثر من 4.5 تريليون دولار، مقارنة بأقل من تريليون قبل الأزمة. صحيح أن هذه السياسة أنقذت النظام المالي وساهمت في انتعاش الأسواق، لكنها تركت وراءها تبعات ثقيلة: اعتماد مفرط على السيولة الرخيصة، تضخم في أسعار الأصول، وتحديات في العودة إلى “الوضع الطبيعي” من دون هزات عنيفة.
اقرأ أيضاً: ترمب يدعو مجلس الفيدرالي إلى “تولي الإدارة” حال عدم خفض الفائدة
“المهمة الثالثة” تخرج من الظل
في ظل هذه الخلفية، تعود “المهمة الثالثة” لتشعل جدلاً جديداً. أنصارها -وأبرزهم وزير الخزانة سكوت بيسنت وجيمس بولارد المحافظ السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس والمرشح لرئاسة الفيدرالي- يرون أنها وسيلة لدعم الاقتصاد وتخفيف عبء الدين وتنشيط سوق الإسكان.
لكن معارضيها، أمثال أوستان غولسبي، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، قرعوا جرس الإنذار، محذرين من خطر التضخم إذا جرى الضغط بشكل مصطنع على العوائد الطويلة، وتهديد استقلالية الفيدرالي وتحويله إلى أداة سياسية وإخفاء عمق مشكلة الدين العام بدلاً من مواجهتها.
ماذا سيحدث إذا أقال ترمب رئيس الاحتياطي الفيدرالي؟.. التفاصيل هنا
هل يُعاد تعريف دور الفيدرالي؟
الفارق الجوهري بين الأمس واليوم هو أن الاحتياطي الفيدرالي لجأ إلى هذه السياسات في ظروف استثنائية: حرب عالمية، أو كساد اقتصادي، أو أزمة مالية كبرى. أما اليوم، فالاقتصاد الأميركي ليس في حرب شاملة ولا في كساد عظيم. وبالتالي، فإنّ إحياء “المهمة الثالثة” في مثل هذا السياق يثير أسئلة جوهرية: هل نحن أمام إعادة تعريف لدور الفيدرالي؟ أم أمام استخدام سياسي عابر لأداة وُجدت أصلاً للتعامل مع الأزمات لا لإدارة الدورات الانتخابية؟
هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط مستقبل السياسة النقدية الأميركية، بل أيضاً شكل العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والبنك المركزي، وربما مسار النظام المالي العالمي كله. فخفض العوائد الطويلة قد يمنح الاقتصاد دفعة قصيرة الأجل، لكنه يحمل في طياته خطراً أكبر: أن يتحول الفيدرالي من رمز للاستقلالية النقدية إلى مجرد ذراع لسياسة مالية تبحث عن حل سريع لكلفة الدين.