لم نعد نُحب كما كنا، ولا نُعلن كما يجب، ولا نُسمّي كما اعتادت القلوب في زمن الصدق. باتت العلاقات تُولد بلا ملامح، وتُروى بلا وعود، وتُعاش بلا اسم يُناديها ولا وصف يُنقذها من التيه. نخوضها بكامل العاطفة، وبلا يقين، نتعلق وننسحب، نشتاق ونصمت، ننتظر شيئًا لا نعرف ملامحه،

نحن في  زمنٍ كثرت فيه الخيارات، ضاعت البدايات، وتبددت النهايات. باتت العلاقات تُعاش وكأنها تجربة مؤقتة، نُجرب بها مشاعرنا لا قلوبنا، نمنحها الوقت دون أن نمنحها تعريفًا، نُمارس الحضور دون التزام، ونترك كل شيء مفتوحًا على الاحتمالات. هكذا نشأت ظاهرة “العلاقات بلا مسميات”، تلك التي لا هي صداقة صافية، ولا حبٌ واضح، ولا حتى علاقة عابرة… بل مساحة رمادية تعجّ بالمشاعر المربكة، وتُخفي خلف صمتها الكثير من القلق، والخوف، والتردد.

هي علاقات تشبه السير في الضباب، فيها من الحضور ما يكفي للتعلّق، ومن الغموض ما يكفي للتورّط، لكنها تخلو من كل طمأنينة واضحة. نحن نُبقيها بلا مسمى كي لا نخسرها، ونُجمّلها بكلمات فضفاضة كـ”ارتياح” أو “تفاهم”، لأن الحقيقة الكاملة مخيفة، أو لأننا لا نريد أن نبدو من يطالب بشيء… في زمن الفرار. نحن اليوم نخاف المسميات أكثر مما نخاف الفقد. نخشى من كلمة “ارتباط” وكأنها قيد، ونهرب من تسمية العلاقة وكأنها تُلزمنا بشيء لا نريد تحمّله. نُبقي الآخر قريبًا بما يكفي ليظل معنا، وبعيدًا بما يكفي لنبقي أبواب الانسحاب مفتوحة. نعيش حالة من المراوغة العاطفية، نُرسل إشارات محبة، ثم نتراجع خطوة، نمنح الأمل، ثم نُلقي عليه ظلال الشك. والمفارقة أن هذه المساحات الغامضة قد تبدو جذابة في بدايتها، لكنها مع الوقت تتحول إلى فوضى وجدانية .

دخلت السوشيال ميديا على الخط، فزادت الطين تشتتًا. منصة تتيح لك أن تكون حاضرًا وغائبًا في آن، واحد . أن تُحب في العلن وتخفي العلاقة عن التوصيف، أن تبعث القلوب وتُطفئها بالإيموجي، أن تقول الكثير دون أن تلتزم بشيء. وفي هذا المناخ الرقمي، أصبحت العلاقات “بلا مسمى” الخيار الأسهل: لا مسؤوليات، لا تعريف، لا خسارة حقيقية… أو هكذا يُخيَّل. لقد أتاح هذا العالم الرقمي الفرصة لخلق ألف علاقة بلا اسم، وألف ارتباط بلا تواصل حقيقي. نُراسل، ونتبادل الصور، ونُشارك التفاصيل اليومية، وكأننا نعيش حياةً مزدوجة: واحدة ظاهرها خفة، وباطنها تعلق، لكن لا أحد يملك شجاعة الاعتراف، ولا أحد يريد أن يُفسد “اللحظة” بالسؤال الكبير: ما الذي يجمعنا؟ وماذا نكون لبعضنا؟ فالمنصات خلقت مناخًا مثاليًا للهروب من الوضوح، وأنتجت أنماطًا من العلاقات تُغذي الحنين وتُرضي الاحتياج اللحظي دون أن تُلزم الطرفين بأي شكل من أشكال المستقبل.

الحرية في الحب جميلة، لكن حين تنزع عنها الوضوح والمسؤولية، تتحول إلى فوضى وجدانية. الفوضى التي تُربك القلب، وتضعه في اختبار دائم: هل أصدق إحساسي أم أواجه واقعي؟ وهل من أحبني حقًا… أم كان يهوى فقط وجودي المريح في ظله، دون أن يسأل نفسه: من أكون بالنسبة له؟ لأن العلاقة حين لا تُسمّى، لا تُحمى. والقلوب حين لا تُحترم وضوحها، تتكسر في صمت، وتتعلم أن تُخفي مشاعرها كوسيلة نجاة. نحن لا نحتاج إلى مسميات كبيرة، بل إلى صراحة صغيرة، تضعنا أمام أنفسنا، وتُعرّي خوفنا، وتُعلمنا أن الحب ليس عيبًا، والوضوح ليس ضعفًا، والنية الصادقة لا تُقلل من الكرامة.

التحليل النفسي لهذا النمط يكشف عن خوف دفين من الرفض، من الالتزام، من الفقد، من الجدية،  كثيرون يخوضون هذه العلاقات لأنهم لا يملكون شجاعة الارتباط، ولا قدرة على الوحدة. يريدون أن يشعروا أنهم محبوبون دون أن يتحملوا مسؤولية الحب. هي أنانية مقنّعة بمظهر الحرية. نوع من التملّك العاطفي الهادئ، حيث لا تُعلن أنك تُحب، لكنك لا تسمح للآخر أن يُحب سواك. تُبقيه في حالة ترقب، وتُحيطه بالاهتمام المشروط، وتُشبع حاجتك العاطفية من وجوده… دون أن تمنحه الأمان أو الاعتراف.

المرأة، تحديدًا، تدفع الثمن الأكبر. لأنها تميل بطبيعتها إلى الربط بين الشعور والمعنى، بين اللفظ والدلالة، بين ما يُقال وما يُقصد. تدخل بعاطفتها، وتبحث عن يقين، وتنتظر لحظة التصريح، لكن حين تتأخر تلك اللحظة، تبدأ في التبرير بدلًا من التساؤل، وتُفسر الغموض على أنه خوف، لا تهرب، وتُراهن على الوقت لعله ينضج العلاقة، فيما العلاقة ذاتها تتآكل يومًا بعد يوم. ولا يحق لها العتاب، لأن لا شيء رسمي، ولا إعلان يُثبت، ولا التزام يُحاسَب عليه أحد. فتظل هي وحدها العالقة بين صمت الطرف الآخر، وضجيج قلبها الذي لا يعرف إلى من ينتمي فعلًا. تُصبح أسيرة مشاعر لا يُعترف بها، ولا تُرفض، فقط تُترك معلّقة… بين لا شيء وكل شيء.

والرجل الذي يختار هذا النوع من العلاقة، غالبًا لا يفتقد المشاعر، لكنه يفتقد الحسم. يخشى أن يُحب فيُجرَح، أو يُرفض، أو يُكبّل. فيُفضّل الدور المريح: حضور بلا وعد، حب بلا عنوان، واهتمام لا يترتب عليه شيء. ينسحب إن سُئل، ويُفسر الحنين على أنه تعلّق غير مبرر، ويرى أن المرأة التي تطلب الوضوح “تستعجل”، بينما هو لا يعلم أنه لا يمنحها سوى الغموض المتراكم، والخذلان المؤجل.

في النهاية، لا شيء يدمر القلوب أكثر من الحب الذي لا يُسمّى. لا من تلك العلاقات التي تُشبه الركض في دائرة مغلقة، حيث لا بداية تُعلن، ولا نهاية تُنهي، ولا طريق واضح يُقال له: ها هنا نمشي. الحب لا يُختبَر بالاحتمالات، ولا يُقاس بمدى قدرتك على الهروب منه، بل بصدقك حين تختار البقاء… وبشجاعتك حين تُسميه، وتحتضنه، وتعترف به وجهًا لوجه.

الحرية الحقيقية في العلاقات لا تأتي من التفلّت، بل من القدرة على أن تقول بصدق: “أنا معك… لأنك تعنيني.”

وما دون ذلك… فوضى يرتدي فيها الحنين قناع الحرية، وتبكي فيها القلوب وحدها، خلف شاشات مُطفأة

شاركها.