قاد بحث أجرته مؤرخة محلية الحكومةَ الأيرلندية إلى اكتشاف مقبرة جماعية غير موثّقة تضم رفات نحو 800 رضيع وطفل صغير في دار تراعه الكنيسة ببلدة توام غربي أيرلندا، وقد ظل هؤلاء الأطفال مجهولي الهوية أكثر من 65 عامًا، ولم يُكشف عن وجود هذه المقابر إلا قبل عقد فقط، بفضل جهود مؤرخة محلية.

ما الذي يحدث الآن؟

تجري أعمال التنقيب، التي بدأت يوم الاثنين ومن المتوقع أن تستمر عامين، في موقع دار “سانت ماري” للأمهات والأطفال، التي كانت تديرها راهبات من دير “بون سيكور” الكاثوليكية، والتي لم تعد موجودة الآن.

ويشرف على التنقيب “مكتب مدير التدخل المعتمد” في أيرلندا، بالتعاون مع خبراء من المملكة المتحدة وكندا وكولومبيا وإسبانيا والولايات المتحدة.

وقال مدير المكتب في توام الذي يقود عملية التنقيب، دانيال ماكسويني، إن الرفات ستُستخرج وتُحلل وتُحدد الهوية إن أمكن، ثم يُعاد دفنها، موضحا أن عملية استخراج الرفات “شديدة التعقيد” نظرا لتداخلها وغياب السجلات الأرشيفية، وصعوبة التمييز بين رفات الذكور والإناث ما لم يُستخرج الحمض النووي.

دانييل ماكسويني، مدير فريق “التدخل المعتمد”، يزور موقع التنقيب عن المقبرة الجماعية في توام (الفرنسية)

ما دور “الأمهات والأطفال”؟

أُنشئت دورُ “الأمهات والأطفال” في أنحاء أيرلندا في القرن العشرين لإيواء النساء الحوامل غير المتزوجات اللواتي لم يكن لديهن أي دعم، في مجتمع محافظ للغاية، وكانت غالبية هذه الدور تديرها مؤسسات دينية، وعلى رأسها الكنيسة الكاثوليكية.

في تلك الفترة، كانت النساء ينبذن من المجتمع ويلجأن إلى تلك الدور طلبا للمساعدة، فيتعرضن للإهمال وسوء المعاملة، ويُنتزع منهن أطفالهن لـ”تبنٍّ” لا يمكن تتبعه.

وبين عامي 1925 و1961، استضافت دار سانت ماري آلاف الأمهات غير المتزوجات وأطفالهن، إضافة إلى مئات العائلات مختلفة التكوين وعدد من الأطفال غير المصحوبين.

Dr Niamh McCullagh, senior forensic consultant, points to the excavation site, Tuam, Ireland, Monday July 7, 2025 as workers have begun moving into the site ahead of the excavation at St Mary's home for unmarried mothers and their children which was run by the Bon Secours Sisters, the Catholic nuns based in Tuam. (AP Photo/Peter Morrison)
الدكتورة نيام ماكولاغ، كبيرة مستشاري الطب الشرعي، تشير إلى موقع التنقيب في توام (أسوشيتد برس)

كيف عُثر على المقابر؟

اكتشفت المؤرخة كاثرين كورليس هذه المقابر قبل نحو عقد.

نشأت كورليس في توام، وكانت تتذكر بشكل غامض “أطفالًا نحيفين ومنعزلين يُقادون إلى الصف الدراسي في وقت لاحق من بقية الأطفال”، كما كتبت في صحيفة ذا أوبزيرفر أواخر الشهر الماضي.

وكتبت: “كان يُطلب منّا ألا نختلط بهم لأنهم يحملون أمراضا. لم يكملوا التعليم، وسرعان ما نُسوا”، وفي عام 2012، تذكرت كورليس هؤلاء الأطفال عندما طُلب منها المساهمة في منشور لجمعية التاريخ المحلية.

فتحدثت المؤرخة إلى كبار السن في المدينة وبدأت في جمع معلومات والبحث في الخرائط والسجلات، واكتشفت أن الأطفال الذين ماتوا في الدار قبل إغلاقها عام 1961 لم يكن لديهم سجلات دفن، رغم أنهم جميعا عُمدوا. لكن الكنيسة أنكرت معرفتها بوفاتهم أو دفنهم.

TUAM, IRELAND - JULY 7: Daniel McSweeney, Director of Authorized Intervention, Tuam and Dr Niamh McCullagh, Senior Forensic Officer are pictured at the dig site based at the former Bon Secours Mother and Baby home on July 7, 2025 in Tuam, Ireland. From 1925 to 1961, hundreds of children died at the St Mary's Mother and Baby home, a maternity home for unmarried mothers and their children, in Tuam, County Galway. It was run by the Bon Secours order of Catholic nuns, and this type of home was common across Ireland for many decades. Test excavations at the site took place in 2016 and 2017, and a mass burial site was found in a former sewage tank containing the remains of 796 babies and toddlers, ranging in age from 35 foetal weeks to two to three years. (Photo by Charles McQuillan/Getty Images)
دانيال ماكسويني ونيام ماكولاغ في موقع الحفريات في دار رعاية الأم والطفل السابقة (غيتي)

كما علمت أن صبيين في عام 1970 عثرا على عظام في جزء مكشوف من خزان الصرف الصحي، وتوصلت إلى وجود أدلة كافية على أن الأطفال والرضع دُفنوا في مقبرة جماعية، ووجدت سجلات تؤكد وفاة نحو 796 طفلا في الدار.

وذكرت كورليس، أن راهبات “بون سيكور” استأجرن شركة علاقات عامة لإنكار وجود المقبرة الجماعية، زاعمات أن العظام تعود إلى فترة المجاعة، لكن وسائل الإعلام الأيرلندية التقطت نتائج بحثها، مما دفع الحكومة الأيرلندية في عام 2015 إلى فتح تحقيق في نحو 18 دارا من دور “الأمهات والأطفال”.

وفي عام 2016، كشفت حفريات أولية في توام عن “كميات كبيرة من الرفات البشرية”.

مقابر جماعية للأطفال في أيرلندا
نصب تذكاري مكتوب عليه “في ذكرى كل من دفنوا هنا، ارقدوا بسلام” (الجزيرة)

كيف مات هؤلاء الأطفال؟

تُظهر شهادات الوفاة الصادرة من الدولة أسبابا متعددة، منها السل، التشنجات، فقر الدم، التهاب السحايا، الحصبة، السعال الديكي، وفي بعض الحالات لم يُسجل سبب الوفاة.

وأول طفل مات كان باتريك ديران، وكان عمره 5 أشهر عندما توفي عام 1925 بسبب التهاب المعدة، في حين كان آخر من مات طفلة تدعى ماري كارتي، وكان عمرها 5 أشهر أيضا، وتوفيت عام 1960 دون تحديد سبب الوفاة.

كانت دار سانت ماري تقع داخل مبنى كبير يُعرف بـ”بيت العمل” بُني في منتصف القرن 19، وقد افتقر إلى التدفئة المركزية والمياه الساخنة والتجهيزات الصحية الملائمة طوال فترة تشغيله تقريبا.

وبحسب تقرير لجنة التحقيق في دور الأمهات والأطفال، تباينت شهادات النزلاء السابقين، فبعضهم وصف تجربته بأنها جيدة، بينما روى آخرون معاناة من قلة الطعام والراحة والدفء، ومنع بعض الأمهات من رؤية أطفالهن.

Workman prepare at the excavation site of the Mother and Baby institution in Tuam, at the site in Co Galway, western Ireland, on July 7, 2025, ahead of excavations commencing.
عمال يستعدون للحفر في مؤسسة الأم والطفل بتوام للبحث عن مزيد من رفات الأطفال (الفرنسية)

ماذا قالت الكنيسة؟

في عام 2014، قال رئيس أساقفة توام آنذاك، مايكل نيري إنه “مصدوم وحزين لسماع عدد الأطفال المتوفين، وهذا يُشير إلى حقبة من المعاناة والألم الشديد للأمهات وأطفالهن”.

وأضاف: “نظرا لعدم مشاركة الأبرشية في إدارة الدار، لا توجد لدينا مواد عنها في أرشيفنا”، مشيرا إلى أن سجلات الرهبنة سُلمت لمجلس مقاطعة غالواي والسلطات الصحية عام 1961.

وفي يناير/كانون الثاني من نفس العام، أصدرت رهبانية بون سيكور بيان اعتذار وقعته إيلين أونور، جاء فيه: “لم نُطبق قيم المسيحية كما يجب خلال إدارة الدار. نقرّ بأن الأطفال الذين توفوا فيها دُفنوا بطريقة غير محترمة وغير مقبولة، ونحن آسفون بشدة لذلك”.

وفي عام 2021، اعترف رئيس الأساقفة الكاثوليكي إيمون مارتن بأن الكنيسة الكاثوليكية كانت جزءا من ثقافة وصمت الناس وأساءت إليهم، وقال: “لهذا، ولكل الألم النفسي الذي ترتب عليه، أقدم اعتذاري الكامل للناجين ولكل من تأثروا شخصيا بهذه الحقيقة”.

Senior Forensic Consultant Niamh McCullagh shows a map of the planned excavation of the Tuam graveyard, where the bodies of 796 babies were uncovered at the site of a former Catholic Church-run Bon Secours Mother and Baby Home, near the excavation site in Tuam, Ireland, July 7, 2025. REUTERS/Clodagh Kilcoyne
كبيرة مستشاري الطب الشرعي نيام ماكولاغ تعرض خريطة حفريات مخطط لها في مقبرة توام (رويترز)

ماذا قالت الحكومة الأيرلندية؟

في يناير/كانون الثاني 2021، قدم رئيس الوزراء الأيرلندي ميشيل مارتن اعتذاره في البرلمان نيابة عن الدولة.

وفي نفس العام، نشرت الحكومة تقريرا من 3 آلاف صفحة استنادا إلى تحقيق بدأ عام 2015، وأسفر عن اعتذارات رسمية وتعهدات بنبش الموقع في توام.

وفي عام 2022، صدر قانون يسمح باستخراج الرفات وتحليلها.

ماذا قال أفراد عائلات النزلاء؟

قالت آنا كورغان، التي يُعتقد أن اثنين من أشقائها دُفنا في توام: إن “هؤلاء الأطفال حُرموا من كل حقوقهم الإنسانية في حياتهم، وكذلك أمهاتهم. وحرمتهم الدولة من الكرامة والاحترام بعد وفاتهم”.

ورغم أن العديد من الأطفال الذين وُلدوا في هذه الدور نجوا، لكن نقلوا إلى ملاجئ أخرى أو تم تبنّيهم دون علم أمهاتهم وعائلاتهم، التي لم تعرف مصير أطفالها في كثير من الحالات.

A memorial of baby socks in a frame is put up at the Tuam graveyard, where the bodies of 796 babies were uncovered at the site of a former Catholic Church-run Bon Secours Mother and Baby Home, in Tuam, Ireland, July 7, 2025. REUTERS/Clodagh Kilcoyne
نصب تذكاري وهو إطار فيه جوارب أطفال مقبرة توام، حيث اكتشفت رفات مئات الأطفال (رويترز)

هل حصل هذا في أيرلندا فقط؟

لا، فقد تعرض الأطفال في رعاية الدولة أو المؤسسات الدينية في دول أخرى إلى سوء المعاملة أيضا.

ففي نيوزيلندا، كشف التحقيق الملكي في عام 2024 أن واحدا من كل 3 أطفال أو أفراد في الرعاية تعرض لسوء معاملة بين 1950 و2019، حيث بلغ العدد نحو 200 ألف طفل وشاب وبالغ، وكانت الانتهاكات جسدية وجنسية، واستهدفت خاصة السكان الأصليين من الماوري وجزر المحيط الهادئ.

أما في كندا، فقد خلصت لجنة الحقيقة والمصالحة عام 2015 إلى أن نظام المدارس الداخلية شكّل إبادة ثقافية.

وكان هذا النظام عبارة عن شبكة من المدارس الداخلية للأطفال من السكان الأصليين، فصلوا قسرًا عن أسرهم “لإعادة برمجتهم”، واستمر من 1879 حتى 1997 تحت إدارة الكنيسة الكاثوليكية والأنجليكانية والمشيخية.

شاركها.