إسطنبول- طالبت النيابة العامة في إسطنبول بعقوبات بالسجن تزيد عن 500 عام بحق زعيم عصابة إجرامية وعدد من أفرادها، بعد توجيه تهم لهم تتعلق بتورطهم في مخطط احتيالي استهدف وحدات العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة، مما أدى إلى وفاة عدد منهم، وإصابة آخرين بمضاعفات صحية خطيرة.
وأثار خبر إلقاء القبض على أعضاء الشبكة الإجرامية التي باتت تُعرف إعلاميا بـ”عصابة حديثي الولادة” اهتماما واسعا في تركيا، نظرا لما تمثله القضية من خطورة على الأمن الاجتماعي.
فقد كشفت التحقيقات استغلال الشبكة المواليد والرضع في عمليات احتيال استهدفت مؤسسة التأمينات الاجتماعية، ما أسفر عن اختلاس مبالغ مالية ضخمة بطريقة غير قانونية، وتعريض حياة الأطفال لخطر الموت.
ما القصة؟
في مايو/أيار 2023، كشفت شكوى قدمتها سيدة تركية عن شبكة إجرامية تتألف من أطباء وممرضين ومسؤولين في مركز الطوارئ، تورطت في استغلال الأطفال حديثي الولادة لتحقيق أرباح غير مشروعة من خلال تزوير التقارير الطبية، وإدخال أطفال أصحاء إلى وحدات العناية المركّزة.
وكشفت التحقيقات عن ممارسات غير قانونية أدت إلى وفاة العديد من الأطفال في ظروف مشبوهة، ووجهت الشكوى أصابع الاتهام إلى الطبيبين فرات ساري وإيلكر جونين.
وأشارت إلى أنهما “تآمرا” مع شبكة من الممرضين وسائقي الإسعاف لإدخال الأطفال إلى وحدات العناية المركزة دون حاجة طبية، بهدف الحصول على مبالغ مالية من عائلات الأطفال، بالإضافة إلى الاحتيال على مؤسسة التأمينات الاجتماعية، التي تقدم دعما للمستشفيات الخاصة مقابل بعض الخدمات الطبية.
مع توسع التحقيقات، امتدت دائرة الاتهام لتشمل سائقين في مركز الطوارئ والإسعاف، الذين لعبوا دورا رئيسيا في نقل الأطفال من المستشفيات الحكومية والخاصة إلى المستشفيات المتورطة في القضية.
وبحسب وسائل إعلام تركية، كانت هذه المستشفيات مختارة بعناية من قِبل المتهمين بالتعاون مع خدمة الطوارئ، فقد تم توجيه الرضع إلى مستشفيات توفر أرباحا أكبر للعصابة، بدلا من نقلهم إلى مراكز توفر لهم الرعاية الصحية المناسبة.
وكشفت التحقيقات أن تلك المستشفيات كانت تؤجر وحدات العناية المركزة، وتوظف ممرضين بدلا من الأطباء لإدارة هذه الوحدات، مما أثار تساؤلات جدية حول مستوى الرعاية الصحية المقدمة، كما كشفت عن وفاة ما لا يقل عن 12 طفلا نتيجة إبقائهم فترات غير ضرورية في وحدات العناية المركزة.
وقدمت العصابة تقارير طبية مزورة تدعي أن هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى رعاية طبية مكثفة، وهو ما سمح لها بتحصيل فواتير ضخمة من مؤسسة التأمينات الاجتماعية، مستغلة بذلك الثغرات في النظام الصحي لتحقيق أرباح غير مشروعة.
تحقيقات واعترافات
مع تزايد التحقيقات والضغوط، بدأ بعض الممرضين في تقديم اعترافات مهمة كشفت عن تفاصيل الجريمة.
هاكان تاشجي، أحد المتورطين، أكد أنه أُجبر على تولي مهام الأطباء في وحدة العناية المركزة تحت إشراف الطبيب فیرات ساري، وكشف أن العصابة كانت تتعمّد إبقاء الأطفال في المستشفى لفترات طويلة دون حاجة طبية لرفع قيمة الفواتير المقدمة إلى مؤسسة التأمينات الاجتماعية.
وأشار تاشجي في شهادته إلى أن الطبيب ساري كان يأمر بترك الأطفال ليموتوا إذا كانت فرص شفائهم ضئيلة، مؤكدا أن الأولوية كانت دائما لتحقيق مكاسب مالية على حساب حياة الأطفال.
بالمقابل، نفى الطبيب فرات ساري، المتهم بقيادة العصابة، أي تورط في الجرائم الموجهة إليه، وأوضح في شهادته أنه أسس شركة “ميديسينا للخدمات الصحية” ويمتلك حصصها بالكامل، مؤكدا أن جميع أنشطته تمت وفق القوانين الصحية المعمول بها.
وفي محاولة لتبرير التحويلات المالية بينه وبين بعض الموظفين، قال ساري إنها كانت “تحفيزية” أو في إطار “تبادل ديون”، وزعم أن المستشفيات التي كانت تحت إشرافه تعرضت لضغوط مالية نتيجة قلة عدد الأطفال في وحدات العناية المركزة، ما دفعها إلى السعي لزيادة أعداد المرضى، لكنه أكد أن القرارات الطبية المتعلقة بإخراج المرضى كانت دائما مسؤولية الأطباء المعنيين.
وظهرت القضية إلى العلن بعد تسريب فيديو لرئيس العصابة فيرات ساري، وهو يهدد النائب العام المسؤول عن التحقيق في القضية بالقتل، مطالبا إياه بالتراجع والتستر على الملف.
وأظهرت الأدلة أن العصابة عرضت مبلغ 100 ألف دولار على أحد المشتبه بهم لتنفيذ عملية اغتيال ضد المدعي العام، في محاولة لعرقلة سير العدالة. وطالبت النيابة العامة في “بيوك جكمجة” بفرض أقصى العقوبات على المتهمين في قضية “عصابة حديثي الولادة”، ودعت إلى الحكم بالسجن لمدة تصل إلى 582 عاما على زعيمها ساري، إضافة إلى شخصيتين رئيسيتين أخريين متورطتين في الجريمة.
كما يواجه 18 متهما آخر، بينهم أطباء وممرضات وعاملون في القطاع الصحي، أحكاما بالسجن تتراوح بين 10 و437 عاما، بتهم تتعلق بـ”القتل العمد والإهمال”.
تحركات حكومية
في خطوة أولية، ألغت وزارة الصحة التركية تراخيص 9 مستشفيات خاصة في إسطنبول بعد تورطها في فضيحة التعاون مع هذه العصابة، وبدأت السلطات المعنية على الفور بنقل الأطفال الرضع والمرضى الموجودين في تلك المستشفيات إلى أخرى حكومية لضمان سلامتهم ورعايتهم.
واستقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزيري الصحة كمال مميش أوغلو والعدل يلماز تونتش في قصر “دولمة بهتشه” بإسطنبول، حيث قدما له تقريرا شاملا حول مستجدات القضية التي أثارت اهتمام الرأي العام التركي.
من جانبه، أكد وزير الداخلية علي يرلي كايا أن مديرية مكافحة الجرائم المالية التابعة لشرطة إسطنبول أجرت تحقيقات مكثفة بدأت في 20 يونيو/حزيران 2023، مما أسفر عن تنفيذ عمليتين منفصلتين، تم خلالهما القبض على المشتبه بهم واحتجازهم، وأضاف أن لائحة اتهام أُعدت بحق 47 متهما في 16 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وما زالت محاكمة 22 منهم مستمرة.
وشدد يرلي كايا على أن القضية تحظى بمتابعة دقيقة، مؤكدا عزمه على ضمان محاسبة المتورطين الذين استغلوا حياة الأطفال لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
وفي السياق ذاته، قال وزير العدل “هدفنا هو الإسراع في إنهاء هذه العملية ومحاسبة كل من تورط في هذه الجريمة أمام العدالة. لن نساوم على تحقيق العدالة في هذه القضية”.
وأوضح أن التحقيق بدأ بعد ورود تقارير تشير إلى استغلال وحدات رعاية الأطفال حديثي الولادة في بعض المستشفيات الخاصة لتحقيق مكاسب مالية، إضافة إلى وفاة أطفال نتيجة الإهمال.
وأشار إلى أن وزارة الصحة أحالت هذه البلاغات إلى مديرية الصحة في إسطنبول، التي بدورها أطلقت تحقيقا إداريا عاجلا، وقدمت شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام للشروع في التحقيق القضائي.
مخاوف
أثار إغلاق الحكومة التركية 9 مستشفيات خاصة في إسطنبول تساؤلات حول تداعيات هذا القرار على القطاع الصحي في المدينة، خاصة في ظل الحاجة المستمرة للمرافق الصحية في أكبر مدن البلاد.
يرى إسماعيل أيدن، الطبيب في مستشفى تشام وساكورا الحكومي بإسطنبول، أن هذه الخطوة رغم أهميتها تأتي بتبعات على النظام الصحي.
وقال للجزيرة نت “إسطنبول تضم إمكانيات صحية كبيرة، ولكن إغلاق 9 مستشفيات سيترك تأثيرا واضحا، خاصة أن هذه المستشفيات كانت تخدم شريحة واسعة من المواطنين، سواء الذين لا يفضلون المؤسسات الحكومية أو من يتم تحويلهم إليها، نظرا لعدم توفر الإمكانيات في بعض الحالات الحرجة بها”.
ويتوقع أيدن إعادة فتح المستشفيات المغلقة بعد انتهاء التحقيقات الجارية، لكن مع تغييرات في الإدارة والطواقم الطبية، لضمان عدم تكرار الحوادث التي أدت إلى هذه الأزمة.
ووفقا له، فإن حادثة مثل هذه لا شك أنها أثرت على سمعة القطاع الصحي في تركيا، لا سيما الخاص. لذا، من الضروري تشديد الرقابة على باقي المستشفيات ومحاسبة المخطئين بشكل سريع لضمان استعادة ثقة المواطنين في النظام الصحي.