سلط الكاتب الإسرائيلي أنشيل فيفر الضوء على معضلة الحريديم في ظل استمرار رفضهم للتجنيد الإلزامي في الجيش الإسرائيلي، وتهديد قادتهم بإسقاط قانون الميزانية، إذا لم يتم تمرير قانون يؤدي إلى إعفاء الشق الأكبر منهم من الخدمة العسكرية.

ويشير الكاتب -في تحليله المنشور في صحيفة هآرتس الإسرائيلية- إلى أن الشهر الجاري (مارس/آذار) قد يكون حاسمًا في تحديد مستقبل ما يمكن تسميته الحكم الذاتي للحريديم في إسرائيل.

فالحكومة الإسرائيلية تواجه موعدًا نهائيًا نهاية الشهر لإقرار الميزانية العامة للدولة، وإذا لم يتم ذلك، فإن الكنيست سيتم حله وستجرى انتخابات جديدة.

لكن القضية الأكثر إلحاحًا بالنسبة للحريديم هي قضية التجنيد الإلزامي. فالحكومة مطالبة بتمرير قانون ينظم تجنيد الحريديم، وهو ما يرفضه قادة المجتمع الحريدي بشدة، وفق الكاتب.

وفي حين يتطرق التحليل لاحتمالات نجاح قانون التجنيد، وارتباطه بقانون الموازنة المصيري لحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإنه يتناول التحديات التي تواجه المجتمع الحريدي في ظل الضغوط السياسية والاجتماعية المتزايدة.

ويرى فيفر أن تلك الضغوط قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في بنية المجتمع الحريدي الذي تمتعت قياداته بحكم ذاتي واسع لعقود، وفي نمط حياة أتباعه.

الخلفية التاريخية

يستعرض الكاتب خلفية تاريخية عن وضع الحريديم في إسرائيل، مشيرًا إلى أن الوضع الحالي للمجتمع الحريدي ليس طبيعيًا ولا يتماشى مع التقاليد اليهودية القديمة.

فمنذ عام 1977، عندما وافقت حكومة الليكود الأولى على منح إعفاء شامل من الخدمة العسكرية لكل من هو مسجل في مدرسة دينية حريدية، بدأ المجتمع الحريدي في التوسع بشكل كبير دون أن يتحمل العبء الأمني أو الاقتصادي الذي يتحمله باقي المواطنين الإسرائيليين.

ويرى فيفر أن هذا الوضع أدى إلى خلق فجوة كبيرة بين الحريديم وبقية المجتمع الإسرائيلي، حيث يعتمد الحريديم بشكل كبير على الدعم الحكومي والمساعدات المالية، في حين يرفضون المشاركة في الخدمة العسكرية أو الانخراط في سوق العمل بشكل كامل.

كذا يوضح الكاتب الإسرائيلي أن القادة الحريديم، بما في ذلك الحاخامات ورؤساء المدارس الدينية، يواجهون معضلة كبيرة، فهم مضطرون للاختيار بين قبول تسوية بشأن قانون التجنيد أو رفض الميزانية وإسقاط الحكومة.

ويذهب التحليل إلى أن كلا الخيارين سيؤدي إلى تغييرات جذرية في حياة المجتمع الحريدي، فقبولهم بالتسوية، يعني نهاية الإعفاء الشامل من الخدمة العسكرية، وإذا رفضوا، فإنهم سيخاطرون بفقدان الدعم الحكومي الذي يعتمدون عليه بشكل كبير.

ويقدم فيفر سيناريوهين محتملين للأحداث القادمة، يتمثل الأول في أن يقبل القادة الحريديم بتسوية مؤقتة مقابل وعود من نتنياهو بتمرير قانون تجنيد لاحقًا.

وهذا السيناريو يبدو الأكثر احتمالا، حيث إن القادة الحريديم لا يرغبون في خسارة الدعم الحكومي الذي يحصلون عليه حاليًا.

أما السيناريو الثاني، وهو الأقل احتمالًا، فهو أن ينجح الكنيست في تمرير قانون تجنيد للحريديم يحظى بموافقة القادة الحريديم. لكن حتى في هذه الحالة، فإن القانون قد لا يلبي معايير المساواة التي تطالب بها المحكمة العليا الإسرائيلية، وقد يتم إلغاؤه لاحقًا.

الضغوط الداخلية

يشير الكاتب إلى أن الضغوط الداخلية داخل المجتمع الحريدي تتزايد، خاصة بين الشباب الذين يواجهون إمكانية استدعائهم للخدمة العسكرية.

ويرى أن الكثير من الشباب الحريديم وأسرهم يشعرون بالقلق من فقدان الحماية التي يوفرها لهم النظام الحالي، ويطالبون قادتهم بإيجاد حل لهذه الأزمة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الضغوط الخارجية من المجتمع الإسرائيلي العام تزداد أيضًا، حيث يطالب الكثير من الإسرائيليين بتقاسم العبء الأمني “بشكل عادل”.

ويشرح فيفر ذلك قائلا “طالما أن الحاخامات يتمسكون بمواقفهم بأنه من الواجب المقدس السماح لجميع دارسي التوراة بالتهرب من التجنيد -بل ويصرون على السماح لكل حريدي بالتهرب- فإنه لا يوجد أمل في تمرير قانون، حتى لو كان بصيغة مخففة كما يتم مناقشته الآن في لجنة الخارجية والأمن.

ويوضح أن الأمر بات لا يتعلق فقط بمسألة التجنيد، بل سيؤثر على الحريديم في مجالات التعليم والتوظيف، والاقتصاد، والإسكان، في حين لا يملك الحاخامات أي بديل حقيقي لمستقبل مجتمعاتهم الشابة ذات الأعداد الكبيرة من الأطفال، سوى التمسك بشعارات حول “أهمية دراسة التوراة والالتزام بالنظام الحالي”.

ويضيف فيفر أن القيادة الحريدية “منقسمة ومتعبة ومشبوهة ومنفصلة بشكل خطير” ليس فقط عن واقع المجتمع الإسرائيلي العام، ولكن أيضًا عن مشاعر الحريديم الأصغر سنًا منهم بـ60 أو 70 عامًا، الذين يُجبرون على مواجهة “قانون التجنيد” بمفردهم، وبحلول نهاية الشهر، سيُطلب من الحاخامات تقديم قرار واضح لأعضاء الكنيست الذين يمثلونهم”.

أزمة “الحكم الذاتي”

ويفصّل الكاتب في النظام الحريدي الذي تم إلغاؤه العام الماضي، والأزمة التي سيعانيها مجتمعهم مع إقرار نظام التجنيد الجديد، قائلا إن “النواب الحريديم وموظفي مكاتبهم، في الحكم المحلي، الكنيست، والحكومة، يقضون جزءًا كبيرًا من وقتهم في الاستجابة لطلبات المساعدة من أفراد المجتمع”.

ويرى أن هذا النظام “يساعد على عزل الحكم الذاتي الحريدي”، لأن الناشطين السياسيين فقط هم من يتعاملون مع العالم الخارجي، وهذا يعني عزل الشباب الحريديم عن المجتمع الإسرائيلي في المرحلة الأكثر أهمية في حياتهم.

ولذلك فإن الكاتب يرى أن عدم حل قانون التجنيد سيخلق معضلة لهذا المجتمع، لا سيما فئة الشباب في سن التجنيد وأولياء أمورهم، الذين يضغطون على الناشطين والحاخامات لإيجاد حل.

ويتوقع فيفر أنه إذا لم تتمكن الأحزاب الحريدية من حماية الرجال الحريديم من قانون التجنيد، فلن يكون لها أي فائدة، وسينخفض نفوذها في الانتخابات.

ويقول “هذا الضغط من الشباب، والعجز الذي يقود الحاخامات إلى اليأس، قد يكون العامل الذي يدفع الأحزاب الحريدية، ضد كل منطق سياسي، إلى إسقاط حكومة نتنياهو بحلول نهاية الشهر”.

ويختتم الكاتب مقاله بالحديث عن التأثيرات المستقبلية المحتملة لهذه الأزمة ومآلاتها، فإذا تم فرض التجنيد الإلزامي على الحريديم، فإن ذلك سيؤدي إلى تغييرات عميقة في بنية المجتمع الحريدي.

ويشير إلى أن المحتمل انقسام مجتمع الحريديم إلى 3 فئات: فئة ستتمسك بالتعاليم الدينية وترفض التجنيد رغم احتمال تعرضها للأوامر القضائية والاعتقالات وقطع التمويل، وفئة ستقبل بالتجنيد وتحاول التوفيق بين الحياة الدينية والحياة العسكرية، وفئة ثالثة ستتخلى عن الهوية الحريدية تمامًا”.

شاركها.