|

على وقع صور متلاحقة لحرب قطاع غزة وما خلفته من مشاهد دامية، اجتاحت منصات التواصل في الأيام الأخيرة لقطات قيل إنها توثّق لحظة اعتقال ضباط وجنود إسرائيليين في قلب هولندا.

ظهرت الصور كأنها مشهد من محكمة التاريخ وقد بدأ يكتب أخيرا على أرض الواقع؛ رجال مكبلون بالأصفاد، عناصر أمنية تطوقهم، ومخازن تفتح لتكشف عن جوازات سفر وأموال وأجهزة حاسوب.

تدفقت المنشورات بشكل واسع، وتلقفها ناشطون على أنها بداية مرحلة جديدة من الملاحقة الدولية لإسرائيل، لا سيما وأنها جاءت متزامنة مع تحولات سياسية لافتة في الموقف الهولندي.

بدا الأمر كأنه صفحة جديدة تفتح في لاهاي، حيث مقر العدالة الدولية، لتمنح هذه الروايات مزيدا من المصداقية وتضاعف من انتشارها في الفضاء الرقمي.

لكن، ما حقيقة هذه المشاهد؟ وهل كانت بالفعل انعكاسا لتحرك قضائي غير مسبوق بحق ضباط إسرائيليين أم إننا أمام قصة أخرى من قصص العالم الرقمي المليء بالمفاجآت؟

 

اعتقال قائد عسكري إسرائيلي

خلال أغسطس/آب الجاري، اجتاحت منصات التواصل منشورات متداولة، بعضها صادر عن حسابات موثقة على “إكس” و”فيسبوك”، حملت صورا ومقاطع فيديو مثيرة للجدل، قيل إنها توثق لحظة اعتقال قائد سلاح المدرعات الإسرائيلي شيتان شائول بتهمة ارتكاب جرائم حرب في رفح جنوبي قطاع غزة.

في تلك المشاهد، بدا رجل مكبل اليدين بالأصفاد ومحاطا بعناصر أمنية، في حين كان آخرون يرتدون زيا رسميا يفتشون ما وصف بأنه مقر يحوي أجهزة حاسوب وجوازات سفر وأدوات حادة، إضافة إلى مبالغ ضخمة.

الصور المتداولة حملت إيحاء واضحا بأنها ليست مجرد عملية أمنية عادية، بل بداية فصل من “المحاسبة الدولية” طال انتظاره.

 

ولم تتوقف الادعاءات عند حدود الصور المتداولة، بل مضت بعض الحسابات أبعد من ذلك لتنسج رواية أكثر إثارة؛ إذ زعمت أن القائد العسكري الإسرائيلي تم توقيفه خلال عطلة صيفية على شاطئ لاهاي بعد أن أدانته منظمات حقوقية بجرائم حرب.

 

وزادت المنشورات زخما حين أرفقتها بنص يؤكد أن “الحكومة الهولندية بدأت حملات ملاحقة موسعة لضباط وجنود إسرائيل عقب صدور حكم من محكمة العدل الدولية بالسجن المؤبد على نتنياهو وكل من شاركه في حرب الإبادة”.

 

سردية كاملة بدت أقرب إلى مشهد من محكمة دولية مفتوحة، مما ضاعف من انتشارها وأكسبها زخما على المنصات.

القصة الحقيقية

غير أن خيوط القصة الحقيقية بدأت تتكشف مع التدقيق؛ إذ تبين لفريق “الجزيرة تحقق” أن الصور المتداولة لا تمت لإسرائيل بصلة، بل تعود في الحقيقة إلى عملية نفذتها الشرطة الإسبانية في مدينة ماربيلا يوم 13 سبتمبر/أيلول 2022، أسفرت عن اعتقال متهم بريطاني من أصل أيرلندي يدعى جوني موريسي.

وبحسب تقارير صحف بريطانية وبيانات الشرطة الأوروبية (يوروبول)، فإن موريسي كان يقود شبكة لغسيل أموال بقيمة 200 مليون يورو مرتبطة بعصابة “كيناهان” الإجرامية العابرة للحدود.

ضبط متهم بريطاني يدعى جوني موريسي في إسبانيا بتهم غسيل أموال بقيمة 200 مليون يورو (تليغراف)

هوية قائد سلاح المدرعات

وبالعودة إلى المصادر العبرية الرسمية، تبيّن لفريق “الجزيرة تحقق” أن قيادة سلاح المدرعات في الجيش الإسرائيلي لا تعود إلى الاسم المتداول في المنشورات، فالقائد الحالي هو العميد أوهاد ماور، في حين تولى هشام إبراهيم المنصب في أغسطس/آب 2022 خلفا للعميد أوهاد نجمة الذي شغله لثلاث سنوات.

 

هذه المعطيات الرسمية تناقض كليا الرواية الزائفة التي روجت لاسم غير موجود في سجلات الجيش الإسرائيلي.

ضابطة إسرائيلية مكبلة

وفي مسار مواز، انتشرت صور أخرى زُعم أنها توثق لحظة اعتقال ضابطة إسرائيلية تدعى “يوخال يوليتا” على الأراضي الهولندية بتهم ارتكاب جرائم حرب.

وأظهرت الصور المتداولة سيدة مكبلة خلال مواجهة مع عناصر زُعم أنهم من الشرطة الهولندية في أحد الشوارع.

 

لكن التحقق باستخدام تقنيات البحث العكسي كشف أن الصور لا تمت بصلة لإسرائيل أو لهولندا؛ إذ تعود في الأصل إلى أغسطس/آب 2016، حين التقطت في شوارع مدينة نيوكاسل البريطانية خلال ليلة عطلة رسمية شهدت فوضى وأعمال عنف وسلوكيات مخلة، دفعت الشرطة للتدخل والسيطرة على الموقف، وفق ما أوردته صحيفة ديلي ميل البريطانية.

 مقالة من صحيفة (ديلي ميل) البريطانية عن احتفالات في مدينة نيوكاسل
فوضى في شوارع نيوكاسل خلال عطلة رسمية (ديلي ميل)

نفي رسمي

وفي مواجهة سيل الادعاءات، خرجت روايات رسمية لتضع حدا للقصة، فقد أكد المتحدث باسم النيابة العامة الهولندية أن السلطات لم تعتقل أي شخص بالاسم المتداول، ولا أي إسرائيلي متهم بجرائم حرب أو جرائم دولية داخل البلاد، لتسقط بذلك مزاعم “الملاحقة الهولندية” المتداولة على المنصات.

وفي السياق ذاته، نفى الجيش الإسرائيلي في تصريحات صحفية احتجاز أي ضابط من صفوفه، في حين شددت السفارة الإسرائيلية في لاهاي على أنها “لا تملك أي معلومات عن حادثة من هذا القبيل أو وجود فرد بهذا الاسم”.

تحولات هولندية

اللافت أن انتشار هذه الصور المضللة جاء متزامنا مع تحولات في الموقف الهولندي تجاه إسرائيل، فقد أدرجت الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة الإرهاب “إن سي تي في” (NCTV) إسرائيل، ولأول مرة، على قائمة الدول التي تشكل تهديدا لأمن البلاد.

وحصلت “الجزيرة تحقق” على وثيقة رسمية منشورة يوم 17 يوليو/تموز الماضي بعنوان “تقييم التهديدات من الجهات الحكومية”، أشارت إلى محاولات إسرائيل التأثير على الرأي العام الهولندي وصناعة القرار السياسي عبر نشر معلومات مضللة.

وثيقة من الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة الإرهاب حول تقييم التعديدات من الجهات الحكومية (الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة الإرهاب بهولندا)
وثيقة حول تقييم التهديدات من الجهات الحكومية الهولندية (الوكالة الوطنية للأمن ومكافحة الإرهاب بهولندا)

جاء هذا التحول بعد أن منعت الحكومة الهولندية وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش من دخول أراضيها بدعوى تحريضهما على العنف ضد الفلسطينيين، في وقت تشهد فيه المدن الهولندية موجة متصاعدة من المظاهرات المناهضة للحرب على قطاع غزة، في مؤشر يعكس تبدل المزاج العام الهولندي تجاه إسرائيل، ويوفر في الوقت ذاته بيئة خصبة استغلها التضليل الرقمي للانتشار على نطاق واسع.

شاركها.