بعد 77 عاما من النكبة، يتواصل المشهد ذاته تهجيرا وتدميرا ممنهجا في غزة والضفة الغربية المحتلة. ولا تختلف فصول المأساة عما جرى عام 1948، فالاحتلال الإسرائيلي يعيد إنتاج النكبة بأدوات أكثر تطورا، وبالأهداف ذاتها في طمس الهوية وسحق الذاكرة ودفع الفلسطيني إلى الرحيل القسري عن أرضه.

بهذه الكلمات، استهل الأكاديمي والخبير في الشؤون الإسرائيلية إبراهيم أبو جابر حديثه للجزيرة نت، مسترجعا ما عاشته قريته إبان النكبة، حيث وقعت مجزرة دموية قتل فيها 14 شخصا من أبناء القرية دفعة واحدة، وتلتها مجازر متفرقة راح ضحيتها العشرات من الأقارب والجيران.

وأبو جابر لاجئ من قرية العراقيب في النقب، التي لم يتبق منها سوى المقبرة بعد أن هدمها الاحتلال أكثر من 200 مرة، لكنه لا يزال يحن إليها، يزورها ويجلس تحت أشجارها ويأكل من أرض أجداده.

كما يروي قصة مأساوية وقعت في قرية المنسي شمال فلسطين، عندما جمع 28 شخصا من كبار السن والمعاقين، وأضرمت فيهم النيران وهم أحياء، ليحرقوا بدم بارد دون رحمة.

وفي قرية الكوفخة، الواقعة ضمن منطقة الفالوجة المعروفة اليوم بـ”كريات غات” تم حرق المدنيين وهم نائمون في الحقول، في تكرار لصورة الموت الجماعي التي باتت ملازمة لذكريات النكبة.

وفي إحدى زياراته، وجد حجرا كانت والدته تخبز عليه قبل التهجير، فحمله معه إلى بيته، وقال “هذه أرضنا، وهذه ذاكرتنا نعيش على الذكرى، فهي الشيء الوحيد الذي تبقى لنا”.

وتندرج هذه القصص ضمن مئات الروايات التي جمعها أبو جابر خلال عمله على موسوعة “جرح النكبة”، التي تضم 12 مجلدا من الشهادات الحية، وتوثق فظائع جماعية ارتكبت بحق الفلسطينيين، من الحرق والدفن وهم أحياء، إلى قطع الرؤوس وركلها ككرات قدم، كما حدث في قرية عيلبون في الجليل الأعلى.

المخيمات الفلسطينية

وبينما تستمر مشاهد التهجير والتدمير منذ النكبة وحتى يومنا هذا، يحذر باحثون فلسطينيون من أن ما يحدث لا يقتصر على البعدين الإنساني أو الأمني، بل يعكس سياسة ممنهجة للاحتلال الإسرائيلي تستهدف جوهر الوجود الفلسطيني من خلال ضرب المخيمات بوصفها حاضنة للهوية الوطنية وذاكرة للنكبة.

ويرى الكاتب والخبير بالشأن الإسرائيلي سليمان بشارات أن ما يجري في المخيمات الفلسطينية لا يمكن فصله عن الصراع الأوسع على الهوية الوطنية، مؤكدا أن الاحتلال يتعامل مع الأمر من زاويتين:

  • الأولى: تتعلق بمحاولة طمس كل ما يربط الفلسطينيين بجذورهم التاريخية.
  • الثانية: بما يخلقه ذلك من تمسك أعمق بحق العودة والانتماء للأرض.

وقال بشارات -في مقابلة مع الجزيرة نت- إن المخيمات الفلسطينية ليست مجرد تجمعات سكنية، بل هي شواهد حية على النكبة والنكسة، وتمثل رموزا وطنية مترسخة في الوجدان الفلسطيني.

وأضاف أن ما يحدث في مخيمات شمال الضفة الآن هو جزء من عملية منظمة لإعادة تشكيل الوعي والبيئة الفلسطينية، في محاولة لخلق واقع جديد يفصل الإنسان عن تاريخه وأرضه.

استهداف الأونروا

وتتجاوز أهمية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) كونها جهة إغاثية، فهي تمثل اعترافا دوليا بمأساة اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة، وتشكل مع جهود إعادة الإعمار خط الدفاع الأول في وجه محاولات طمس الهوية الوطنية.

ويربط بشارات بين هذه الإجراءات والحملة ضد الأونروا، معتبرا أن استهداف الأونروا ليس فقط إداريا أو تمويليا بل هو سياسي والهدف منه طمس أي دليل مادي يعزز رواية الفلسطينيين.

كما أشار إلى أن ما يجري في غزة من تدمير واسع للبنية التحتية والمرافق العامة يصب في السياق ذاته، ويهدف إلى اقتلاع الفلسطيني من أرضه ونقله إلى بيئة حياتية جديدة منفصلة عن سياقه التاريخي والوجداني.

وتحدث بشارات عن طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمشروع “أوليفيرا غزة” معتبرا أن هذه المبادرة ليست مجرد خطة لإعادة الإعمار، بل محاولة لإنتاج هوية فلسطينية جديدة مفصولة عن الأرض والانتماء الوطني.

ويرى أن الهدف من المشروع هو خلق جيل فلسطيني لا يحمل الارتباط العميق ذاته بقضية العودة، مما يسهل برأيه الضغط لاحقا للتنازل عن هذه الحقوق التاريخية.

وأكد بشارات على أن ما يجري اليوم هو صراع وجود، تحاول فيه إسرائيل إعادة تعريف علاقة الفلسطيني بأرضه وهويته، في وقت يخوض فيه الفلسطيني معركة الدفاع عن الرواية والحق في العودة في وجه محاولات الطمس والتشويه.

ذكرى النكبة

وتعود ذكرى النكبة هذا العام في ظل حرب إبادة مستمرة على قطاع غزة، لتعيد مشاهد تهجير وتطهير عاشها الفلسطينيون عام 1948، فهي نكبة لم تنته بل أعيد إنتاجها بأدوات جديدة وهدف واحد اقتلاع الفلسطيني من أرضه.

وقال القائم بأعمال الأمين العام للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج هشام أبو محفوظ إن الذكرى الـ77 للنكبة الفلسطينية تأتي في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية التي يشنها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة، وتفاقم الأوضاع الإنسانية بسبب استمرار سياسة الحصار والتجويع وجرائم الحرب.

وفي تصريحات صحفية، أضاف أن ذكرى النكبة هذا العام جاءت في مرحلة جديدة من نضال الشعب الفلسطيني عنوانها زوال المشروع الإسرائيلي وتحرير الأرض وانتزاع الحقوق.

وأشار إلى أن القضية استعادت مكانتها على سلم أولويات المجتمع الدولي، وسط تصاعد الأصوات العالمية الداعمة للفلسطينيين ورفضا لحرب الإبادة، داعيا إلى استمرار الحراك العالمي ومحاسبة الاحتلال على جرائمه ووقف العدوان على غزة.

شاركها.