بذلت نخبة نيويورك كل ما في وسعها لمنع زهران ممداني من الفوز بمنصب عمدة المدينة، من ضخّ الأموال إلى الإهانات وحملات الترهيب، وصولاً إلى وابل من التغريدات.

خصومه الأثرياء صوّروا صعوده بوصفه إيذاناً بـ”صيف شيوعي حار”. وكان بيل آكمان من أشدّ منتقديه ضراوة، حتى أن ممداني نفسه علّق على ذلك، ساخراً في بودكاست “Flagrant” الشهر الماضي، حين قال “ينفق ضدي أكثر من الضرائب التي كانت ستفرض”.

اقرأ أيضاً: من هو عمدة نيويورك القادم المؤيد لفلسطين؟

مع ذلك، حسم ممداني السباق يوم الثلاثاء فائزاً في انتخابات عمدة نيويورك، ما دفع آكمان إلى توجيه رسالة تصالحية عقب صدور النتائج.

وتوجّه الملياردير إلى ممداني في منشور عبر منصة “أكس”، قائلاً: “مبروك على الفوز. أمامك الآن مسؤولية كبرى. وإذا كان بوسعي أن أقدّم شيئاً لنيويورك، أخبرني بما يمكنني فعله”.

نخبة وول ستريت تمد اليد إلى ممداني

لم يكن آكمان وحيداً في ذلك. فآخرون من عالم المال والأعمال بدأوا يتأقلمون مع واقع جديد يقود فيه منتقد صريح للرأسمالية، دفة الحكم في العاصمة المالية للعالم.

من بين هؤلاء رالف شلوسشتاين، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “إيفركور” (Evercore) وأحد مؤسسي “بلاك روك” الذي أبدى استعداده للتعاون مع ممداني رغم اختلاف التوجهات السياسية بينهما. وهو يدرس حالياً الانضمام إلى مجموعة استشارية من رجال الأعمال تأمل في تقديم المشورة للعمدة المنتخب.

وقال شلوسشتاين: “قطعاً لستُ اشتراكياً، لقد أمضيت 45 عاماً في القطاع المالي والخاص. أُكنّ حباً عميقاً لهذه المدينة، ولن أغادرها مهما كان اسم العمدة. سأفعل كل ما في وسعي لمساعدته على النجاح”.

أتى هذا التعهد رداً على مخاوف متصاعدة من أن تؤدي مقترحات ممداني، مثل رفع الضرائب، إلى هجرة الأثرياء من المدينة.

يُظهر أحد قرارات التعيين المبكرة لرئيس البلدية المنتخب ممداني أنه يعتزم اتباع نهج تقدمي في القضايا الاقتصادية والتجارية. فقد اختار رئيسة لجنة التجارة الفيدرالية السابقة لينا خان ضمن فريقه الانتقالي، وهي شخصية أثارت غضب الشركات وكبار صانعي الصفقات بسبب مواقفها الصارمة في قضايا مكافحة الاحتكار.

وستقدّم خان المشورة لرئيس البلدية المنتخب في السياسات الاقتصادية واختيار الكوادر.

لكن ممداني قال أيضاً يوم الأربعاء إنه يتطلع إلى الاجتماع مع جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لـ”جيه بي مورغان تشيس”، ومع قادة الأعمال الآخرين لمناقشة مستقبل المدينة، مؤكداً ضرورة التعاون رغم الخلافات السياسية. وأضاف: “لا يمكننا أن نطلب الاتفاق على كل قضية حتى نتمكن من إجراء محادثة”.

من جانبه، يرى مارك كرونفيلد، المدير التنفيذي السابق في “بلاك روك” وأحد أبناء نيويورك، أن الوقت قد حان كي تتوقف نخبة قطاع الأعمال عن التذمّر، وتبدأ برسم مسار يحفظ حضورها. وقال ساخراً: “هل تحوّلت المدينة إلى ديستوبيا (عالم منهار) لأن ممداني فاز؟ كلا”.

ممداني نسخة يسارية من ترمب

رأى كرونفيلد أن ممداني حوّل ازدراء وول ستريت له إلى ورقة رابحة. وأضاف: “في بعض الجوانب، هو نسخة يسارية من دونالد ترمب. كان يرغب في أن يتعرض للهجوم من أشخاص لن يدعموه يوماً، وجعل ذلك محور سرديته التسويقية”.

بالنسبة لكثيرين، كشفت الحملة التي شنّها الأثرياء ضد ممداني عن غطرسة وول ستريت وسخط اجتماعي أعمق تجاه قطاع المال والأعمال.

اقرأ أيضاً: الديمقراطيون يحسمون أولى المعارك الانتخابية في عهد ترمب الثاني بانتصارات في 3 ولايات

وقال مايكل نيلسون، الخبير المخضرم في التوظيف: “بعض العاملين في هذا القطاع يعتقدون أن الشمس لا تشرق ولا تغرب إلا بفضلهم. لكن الحقيقة أن كثيرين لا يطيقون وول ستريت ولا المليارديرات”، معتبراً أن ناخبي ممداني وجهوا رسالة رفض واضحة لهم.

مع تقدّم حملة ممداني، بدأ يحقق مكاسب بين الفئات الميسورة، بل أيضاً يجتذب مؤيدين صامتين في أعلى هرم القطاع المالي. وقال موظف في “بنك أوف أميركا” يتقاضى راتباً بعشرات ملايين الدولارات، إنه يدعم ممداني، لكنه لا يجرؤ على البوح بذلك أمام زملائه خشية أن يوصم بالاشتراكية.

أما الملياردير في قطاع العملات المشفّرة، مايك نوفوغراتس، فلم يخف قناعته بضرورة مدّ الجسور، قائلاً: “بمجرد أن يتولى المنصب، علينا أن نضمن نجاحه في الحفاظ على نيويورك مدينة مزدهرة. هو يعبّر عن واقع حقيقي، نحن فعلاً نعيش قصة مدينتين، بالمعنى الذي وصفه تشارلز ديكنز، وبدرجة غير مسبوقة. والسؤال المطروح هو: هل يمكن معالجة أزمة غلاء المعيشة بطرق مبتكرة من دون التسبّب في هروب الأعمال؟”.

موقف ممداني من إسرائيل يثير قلقاً في مجتمع الأعمال

بدأ قادة أعمال آخرون بتليين مواقفهم أيضاً. فالرئيس التنفيذي لـ”جيه بي مورغان”، جيمي ديمون الذي سبق أن وصف ممداني بأنه “أقرب إلى الماركسي منه إلى الاشتراكي” قال الشهر الماضي إنه قرر أن يضع شكوكه جانباً، وسيعرض المساعدة على العمدة الجديد.

قال روبرت وولف، الرئيس التنفيذي لشركة “32 أدفايزرز” والرئيس السابق لـ “يو بي إس أميركا”: “لا يفاجئني أن كثيرين في مجتمع الأعمال لم يدعموه، لكن الآن بعدما أصبح رئيساً للبلدية، آمل أن يساهموا في نجاحه لضمان ازدهار مدينة نيويورك”.

ويوم الثلاثاء، صرّحت جين فريزر، الرئيسة التنفيذية لـ”سيتي غروب”، قائلةً: “نأمل أن نعمل مع العمدة المنتخب لجعل هذه المدينة مكاناً أفضل حتى لموظفينا وعملائنا للعيش والعمل”.

لكن انتقادات ممداني لإسرائيل لا تزال تثير تحفظات لدى عدد من رجال الأعمال، بحسب كاثي وايلد، رئيسة مجموعة الضغط “شراكة من أجل مدينة نيويورك” (Partnership for New York City)، التي تضم في صفوفها 350 رئيساً تنفيذياً. وقالت إن على ممداني طمأنة المجتمع اليهودي في المدينة، الذي شهد مؤخراً تصاعداً في جرائم الكراهية المعادية للسامية.

أما الحاكم السابق أندرو كومو، الذي خاض الانتخابات بصفة مستقلة بعد خسارته أمام ممداني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، فقد ركّز في حملته على دعمه العلني لإسرائيل، وحصل على ما يزيد قليلاً على 40% من أصوات الناخبين في الانتخابات العامة.

(العمدة السابق مايكل آر. بلومبرغ، مؤسس ومالك الحصة الأكبر في شركة “بلومبرغ” المالكة لبلومبرغ نيوز، أيّد كومو في الانتخابات التمهيدية والعامة، وقدم مساهمات للجنة عمل سياسي تدعم حملته الانتخابية).

ممداني يمد الجسور مع قطاع الأعمال

من جانبه، سعى ممداني إلى مدّ جسور مع مجتمع المال والأعمال. حتى أن أحد مؤسسي صناديق التحوّط تساءل ما إذا كان ممداني متمسّكاً فعلاً بقناعاته الاشتراكية الصارمة، بعدما شارك في جلسة مغلقة معه. إذ قال إن تصريحاته خلال اللقاء بدت أقرب إلى شخص منفتح على اعتماد مقاربة مرنة لتحقيق أهدافه، رغم أنه خرج من الاجتماع من دون اقتناع كامل.

من بين تلك الجسور المحتملة، المجموعة التي يدرس شلوسشتاين الانضمام إليها، والتي تضم بالفعل المستثمرَين كيفن رايان وأندرو ميلغرام، وتهدف إلى تشكيل لجنة من الخبراء في مجالات المال والعقارات والتكنولوجيا والرعاية الصحية والإدارة العامة.

ميلغرام، الذي يدير أكبر شركة تمتلك تراخيص سيارات أجرة في المدينة عبر صندوق الاستثمار المتعثر “ماربلغيت” (Marblegate Asset Management)، سبق أن تعاون مع ممداني في ملف إعادة هيكلة ديون سائقي التاكسي. وقال إن ممداني دافع عن السائقين الغارقين في الديون، وشاركهم الإضراب عن الطعام تضامناً مع قضيتهم.

وأشار إلى أن السياسي الشاب كان مصمماً على إيجاد حل، يشمل إقناع “ماربلغيت” بشراء القروض وشطب نحو 400 مليون دولار من الديون، وأضاف قائلاً: “لم تكن هذه مجرّد فرصة استعراضية لسياسي طموح يلتقط الصور. لقد جمع جميع الأطراف، ودفعهم باتجاه حل عملي”.

غلاء المعيشة في نيويورك

ورغم خطابه المناهض للأثرياء، فإن صعود ممداني استند إلى دعم شريحة واسعة من المهنيين الشباب في المدينة، كثير منهم لا يزال في بداية طريقه نحو الدخول إلى طبقة الميسورين.

لكن، كما هو حال كثيرين في نيويورك، حتى من يتقاضون رواتب بمئات آلاف الدولارات، فيواجهون ضغوط كلفة المعيشة. وتشير البيانات إلى أن ما لا يقل عن 65 ألف أسرة يتراوح دخلها السنوي بين 100 ألف و300 ألف دولار، تدفع ثلث دخلها الإجمالي أو أكثر للإيجار. وفي العديد من هذه الأحياء، منح الناخبون أصواتهم لممداني في الانتخابات التمهيدية التي جرت في يونيو.

اقرأ أيضاً: مليونيرات أميركا يتزايدون لكنهم يعانون ضائقة مالية

قال ديفيد طويل، مؤسس صندوق تحوّط في قطاع العملات المشفّرة: “تذمر قدرما تشاء بشأن كلفة المعيشة، لا أحد طلب منك البقاء في نيويورك”.

فبرأي طويل، شعار “تيسير الكلفة” قد يكون جذاباً، لكنه ببساطة غير واقعي في مدينة مثل نيويورك. وأضاف: “أعلم أن ما سأقوله قد يبدو قاسياً، لكنني لا أعتقد أن هناك من حلّ للمشكلة. ولا أظن أن طبقة وول ستريت ترى أن نيويورك ينبغي أن تكون مدينة ميسورة الكلفة من الأساس”.

وكان طويل نفسه قد غادر مانهاتن وانتقل للعيش على شاطئ جيرسي، بعدما أثقلت تكاليف المعيشة كاهله.

ماذا تحمل حقبة ممداني في نيويورك؟

لا يرى لويد بلانكفاين، ابن نيويورك والرئيس التنفيذي السابق لـ”غولدمان ساكس”، داعياً للقلق مع انطلاق حقبة ممداني في المدينة.

بلانكفاين، الذي تولّى قيادة “غولدمان ساكس” خلال العقد الذي أعقب تعافي نيويورك من الأزمة المالية العالمية، كان تعرّض شخصياً للاستهداف من حركة “احتلوا وول ستريت” اليسارية، التي نصبت خيامها في حديقة زوكوتي على بعد خطوات من مقر الشركة في مانهاتن السفلى.

فهو يرى أن المنصب الجديد سيفرض على ممداني التخلّي عن التصعيد، وسيُحكم عليه وفق النتائج التي سيتمكن من تحقيقها.

وقال: “بإمكان نوّاب مثل ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز أو بيرني ساندرز أن يمضوا حياتهم السياسية في مناصبهم من دون طرح أو تمرير أي قانون”، في إشارة إلى اثنين من أبرز داعمي ممداني.

وأضاف: “لكن العمدة منصب تنفيذي، وهناك أمور لا تحتمل التأجيل، فالنفايات يجب جمعها، والثلوج يجب إزاحتها، والجريمة لا بد أن تبقى تحت السيطرة. وإن فشل في ذلك، فسيخسر منصبه بعد ولاية واحدة، ولن نرى اشتراكياً آخر في هذا الموقع لسنوات طويلة”.

شاركها.