في الليلة التي انتظر فيها الجميع نبأ استشهاده، كان يتنفس.
نعم، كان يتنفس!
بينما كان الجثمان مُغسلًا، مُكفنًا، والمشيعون على وشك دفنه إلى جوار رفاقه الشهداء عند الكيلو 61 بطريق مصر-السويس، كانت الحياة تختبئ في مكان ما بداخله… تنبض بروية، تُمهل اللحظة فرصة أخيرة لتغير مجراها.
كانت… تأبى أن تستسلم للموت.
لكن دعني أرجع بك إلى البداية…

لم يكن “سعيد محمد الصباغ” من أولئك الذين يقبلون الحياة كما هي… كان يؤمن أن للإنسان أكثر من وجهة، وأكثر من فرصة، وأكثر من بداية.
بعد أن نال درجة الماجستير في علم الاجتماع، بدأ رحلته الأكاديمية كمعيد في كلية الآداب. أربع سنوات قضاها بين قاعات الدراسة والكتب والأبحاث، يبدو في ظاهرها الاستقرار… لكن في داخله، كانت هناك روح لا تهدأ، تبحث عن معنى أوسع من مجرد لقب وظيفي.
رحل عن الجامعة ليخوض تجربة جديدة في إحدى شركات الدولة، لكن شيئًا ما ظل يهمس له: “هذا ليس مكانك.”
كان يشعر أن شغفه الحقيقي لا ينتظر خلف المكاتب، وإنما في الفصول، بين التلاميذ، حيث يمكن للكلمة الأولى أن تزرع بذرة، وحيث تنبت الأفكار كما تنبت الأحلام في عيون الصغار.
هناك، في ساحة التعليم ما قبل الجامعي، وجد نفسه… وجد رسالته.
لكنه لم يكن يعلم أن التحول الحقيقي في حياته لم يبدأ بعد…
ففي عام 1973، وحين نادى الوطن، لم يتردد. تم تجنيده كضابط احتياط في القوات الجوية، ووجد نفسه وسط أصوات الطائرات الحربية، وصفارات الإنذار، وهسيس الرصاص.
هناك، في قلب العاصفة، حمل سعيد راية الواجب دون أن يتردد، ومضى إلى الخطوط الأمامية، كأنما خُلق لهذا الموضع بالضبط… ليكتب فصله الأهم في رواية لا تُنسى.
وفي واحدة من تلك اللحظات التي تتشابك فيها الحياة بالموت، وتبدو فيها النهاية وشيكة كطلقة قريبة… كانت حياة سعيد محمد الصباغ تنسحب نحو الظلام، لتهمس بوداعها الأخير. 
كان ذلك يوم 21 أكتوبر 1973، قبل يومٍ واحد فقط من وقف إطلاق النار.
على أرض قاعدة القطامية الحربية التابعة للجيش الثالث، سقط مصابًا بجروح خطيرة، وسط المعارك التي لا تمنح وقتًا للتفكير أو فرصة للرجوع.
كل شيء حينها كان يشير إلى نهاية محتومة. الدم، الفوضى، صوت الإسعاف… والعيون التي اعتادت أن تودع.
لكن… بدا أن هناك شيئًا ما لم يُحسم بعد.
فالحياة، رغم كل شيء، رفضت أن تسلمه للموت بهذه السهولة. تشبثت به، أو ربما هو من تمسك بها، ليكتب الله له نجاة لا تحدث كثيرًا في ساحات الحرب.
نُقل إلى مستشفى الجبهة بالسويس، وهناك أمضى ثمانية أيام كاملة في العناية المركزة، تتأرجح روحه بين الأرض والسماء.
وفي النهاية، أُعلن الخبر الحزين: استُشهد النقيب سعيد محمد الصباغ.
تم تغسيله. كُفِّن. صُلِّي عليه.
ثم نُقل الجثمان ليُدفن مع رفاقه الشهداء، في المقابر الجماعية عند الكيلو 61 بطريق مصر-السويس.
لكن، وقبل لحظات قليلة من أن يُهال عليه التراب… حدث ما يشبه المعجزة.
أحدهم لاحظ أن صدره لا زال يرتفع… أن نبضًا خافتًا ما زال هناك… أن الموت حضر، لكنه لم يُؤذن له بالقبض…
تمت إعادته فورا إلى العناية المركزة، حيث بقي يومين آخرين قبل أن ينقل إلى  مستشفى الطيران بالقاهرة. هناك عاد للحياة من جديد، وبهذا منحوه لقبا مميزا لم يحصل عليه سوى عدد قليل جدا من الأبطال:  “الشهيد الحي رقم 6” .

ربما لا نعرف دائمًا لماذا ينجو البعض بينما يرحل الآخرون، لكننا نعرف أن في قصصهم رسالة…
نعم، كان سعيد الصباغ إحدى هؤلاء القلة الذين أشرفوا على الموت، لكنهم عادوا، حاملين معهم قصص تبقى للأبد محفورة في ذاكرة الوطن…
في عودة “الشهيد الحي رقم 6” ما يشبه المعجزة… أو قد يتجاوزها.
إنها لم تكن مجرد نجاة من الموت، وإنما شهادة حية على أن بعض التضحيات لا تُختم برصاصة، وأن الوطن لا ينسى من وهبوه أرواحهم، حتى إن أعادهم من أبواب الرحيل.
سعيد محمد الصباغ لم يكن مجرد جندي عاد من الحرب…
كان حكاية تمشي على قدمين، لو لم تُروَ لظنها الناس خرافة تُهمس في المجالس القديمة.
تخيل أن ترى من حولك يبكونك، يصلون عليك، يستعدون لدفنك…
بينما في أعماقك، هناك نبض خافت يتمسك بالحياة، كأن روحك ترفض أن تُطوى الصفحة قبل أن ترويها…
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا…
ماذا تقول الحياة حين تُغلب؟ حين تُهزم أمام قدر اختار أن يمنح فرصة أخرى؟
ربما تتوقف قليلًا، تنبض بروية، تلتفت بدهشة…
وربما، كما فعلت مع الشهيد الحي، تنحني في هدوء… وتفسح له الطريق ليُكمل الحكاية بنفسه.
كان صفحة تم طيها… ثم فُتحت من جديد.
رجل قرأ نعيه حيا، وسمع دعوات الوداع… ثم عاد ليكتب بقية القصة بيده.
ولا أحد يملك تفسيرًا كاملًا لما جرى.
لكننا نعلم أن بعض الأرواح لا تُطفأ بسهولة…
وأن بعض الأبطال، لا يكتفون بالحياة مرة واحدة.

شاركها.