تتجه مصر لزيادة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال حتى نهاية العقد، في خطوة تنذر بزيادة الضغط على السوق العالمية وارتفاع فاتورة الاستيراد.

وبحسب أشخاص مطلعين، تخطط الحكومة لشراء مزيد من الغاز مسال بخلاف الكميات الضخمة التي كانت وافقت عليها أصلاً حتى عام 2028، بهدف تلبية الطلب المتزايد وتعويض التراجع في الإنتاج المحلي. وقد وقعت بالفعل عقوداً تمتد لعشر سنوات لتأمين البنية التحتية للاستيراد، وتجري مفاوضات مع قطر بشأن اتفاقات طويلة الأجل لتوريد الغاز.

وتشير هذه الخطط إلى أن مصر على الأرجح لن تحقق هدفها باستئناف التصدير في عام 2027، ما يسلط الضوء على التحوّل العميق الذي شهدته البلاد في مجال الطاقة، بعدما أصبحت مستورداً صافياً للغاز مؤخراً. ولا يلوح في الأفق تحسّن على المدى الطويل، في ظل الارتفاع الحاد في الطلب على الكهرباء الذي فاقمه تغير المناخ والنمو السكاني الأسرع في شمال أفريقيا.

ضغط إضافي على الاقتصاد

وكانت صفقات الاستيراد الأخيرة التي أبرمتها مصر أدت إلى تعميق شحّ إمدادات الغاز الطبيعي المسال في السوق العالمية، في وقت تبحث أوروبا عن شحنات إضافية لإعادة ملء مخزونها وتعويض الغاز الروسي. وإذا واصلت القاهرة استقطاب الشحنات خلال السنوات المقبلة، فمن المرجح أن تستحوذ على جزء من الإمدادات الجديدة الناتجة عن دخول مشاريع إضافية إلى الخدمة، ما من شأنه أن يبقي الأسعار مرتفعة.

اقرأ أيضاً: مصر تسعى لتلقي نحو 1.3 مليار قدم من الغاز القبرصي بنهاية 2028

بالنسبة لمصر، يشكل هذا التوسع في الاستيراد عبئاً مالياً ثقيلاً، إذ من المتوقع أن ترتفع فاتورة استيراد الغاز المسال والمنتجات البترولية إلى نحو 20 مليار دولار هذا العام، مقارنة بـ12.5 مليار دولار في 2024، وفقاً لأشخاص مطلعين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم نظراً لحساسية الموضوع.

تسعى مصر إلى إعادة هيكلة اقتصادها بعد حصولها العام الماضي على حزمة إنقاذ مالي بقيمة 57 مليار دولار، غير أن التوسع في واردات الغاز الطبيعي المسال سيفاقم الضغوط التمويلية. وتواجه البلاد أصلاً انخفاضاً حاداً في إيرادات قناة السويس نتيجة هجمات مسلحين من اليمن على حركة الملاحة في البحر الأحمر خلال الـ18 شهراً الماضية، رغم التوقعات بوصول أعداد السياح إلى مستوى قياسي هذا العام.

قال ريكاردو فابياني، المدير المؤقت لبرنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “مجموعة الأزمات الدولية: “نقص الغاز الطبيعي سيكون من أكبر الأعباء على الحساب الجاري والسيولة الدولارية في مصر خلال المستقبل القريب.”

وامتنعت وزارة البترول المصرية عن التعليق.

اقرأ أيضاً: مصر تستقبل 46 شحنة غاز خلال شهرين لتأمين وقود محطات الكهرباء

مصدّر متقلب

عادت مصر لتصدير الغاز الطبيعي المسال في عام 2019، بفضل الإنتاج الجديد من حقل “ظهر” العملاق التابع لشركة “إيني” منهية بذلك سنوات من التوقف شبه الكامل في محطتي الإسالة في دمياط وإدكو نتيجة نقص الإمدادات المحلية.

شكل استئناف التصدير دفعة قوية للاقتصاد، إذ بلغت شحنات الغاز المسال ذروتها عند نحو 9 مليارات متر مكعب في عام 2022، بالتزامن مع ارتفاع حاد في أسعار الغاز الأوروبية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وارتفعت عائدات مصر من صادرات الغاز إلى 8.4 مليار دولار في ذلك العام، مقارنة بـ3.5 مليار دولار في 2021، وفقاً لبيانات حكومية.

لم تدم الطفرة طويلاً. فبحلول عام 2023، بدأ الإنتاج المحلي من الغاز في التراجع بمعدل سنوي تجاوز 10% في ظل هبوط إنتاج حقل “ظُهر” عن ذروته.

وامتنعت شركة “إيني” عن التعليق على مستويات الإمداد الحالية، لكنها أكدت أن “الإنتاج يسير وفق الخطط، وأن الحقل دخل مرحلة ما بعد الذروة، وأن وتيرة الإنتاج في ظُهر مماثلة لما تشهده الحقول ذات الخصائص المشابهة حول العالم”.

وكانت الشركة الإيطالية تخطط لحفر بئرين إضافيين في الحقل، بعد أن بدأت الحكومة المصرية سداد جزء من المتأخرات المالية، بحسب ما أعلنه المدير المالي فرانشيسكو غاتِّي خلال مؤتمر إعلان النتائج في فبراير الماضي.

في غضون ذلك، ارتفع الطلب على الغاز في مصر لتوليد الكهرباء، مدفوعاً بالنمو السكاني السريع وموجات الحرّ الشديدة التي زادت الاعتماد على أجهزة التكييف. ووجدت القاهرة نفسها أمام خيار صعب: إما الحفاظ على استمرار التغذية الكهربائية أو مواصلة تصدير الغاز المسال.

وبحلول عام 2024، عادت مصر إلى موقع المستورد الصافي للغاز المسال، في ظل تراجع الإنتاج إلى ما دون 4 مليارات قدم مكعب يومياً للمرة الأولى منذ يوليو 2016.

وكانت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي قد كثّفت واردات الغاز خلال العام الماضي ضمن خطة لوقف الانقطاعات المتكررة للكهرباء، وهي خطوة حققت نجاحاً ملحوظاً. وفي موازاة ذلك، تمضي الحكومة في سداد المتأخرات شهرياً لشركات الطاقة الأجنبية، في محاولة لتحفيزها على زيادة استثماراتها.

وقال مارتين مورفي، كبير محللي المنبع في شمال إفريقيا وشرق المتوسط لدى “وود ماكنزي”:
“عودة مصر إلى الاكتفاء الذاتي تتطلب نجاحات كبيرة في أعمال الاستكشاف، إلى جانب عدة سنوات قبل دخول أي اكتشافات جديدة إلى السوق”.

اعتماد على الاستيراد

في ظل عدم دخول خطط تعزيز الإنتاج المحلي حيّز التنفيذ بعد، تركز السلطات المصرية حالياً على تأمين واردات على المدى الطويل وحماية السوق المحلية من تقلبات الأسعار المرتبطة بالتوترات الجيوسياسية.

فإلى جانب الغاز المسال، تستورد مصر أيضاً الغاز من إسرائيل عبر خط أنابيب. وفي الشهر الماضي، دفع التصعيد بين إسرائيل وإيران إلى إغلاق احترازي لحقل ” ليفياثان ” في شرق المتوسط، ما أدى إلى توقف الإمدادات لأكثر من أسبوع، واضطرت القاهرة إلى قطع الغاز مؤقتاً عن بعض القطاعات الصناعية.

وقال رجل الأعمال نجيب ساويرس في مقابلة مع قناة “العربية”: “لا يجب أن يكون الحل في قطع الغاز عن مصانع الأسمدة، لأن ذلك يؤثر على الفلاحين والإنتاج الزراعي والصادرات. لم يكن من المفترض أن نعتمد على الغاز الإسرائيلي منذ البداية”.

اقرأ أيضاً: تدفق غاز إسرائيل إلى مصر يبلغ مليار قدم مكعب يومياً

في مواجهة المتغيرات الراهنة، أبرمت مصر اتفاقات مع شركات كبرى، من بينها “أرامكو السعودية” و”ترافيغورا” (Trafigura ) و”فيتول” (Vitol )، لاستيراد ما يصل إلى 290 شحنة من الغاز الطبيعي المسال، تمتد من يوليو 2024 وحتى عام 2028. كما تجري مفاوضات مع قطر لعقد صفقات توريد طويلة الأجل.

لكن هذا المستوى من أمن الطاقة لا يأتي من دون كلفة. فبحسب شخصين مطّلعَين، لا يتجاوز سعر الغاز الإسرائيلي المنقول عبر الأنابيب 6 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وهو ما يقلّ عن نصف السعر الذي تدفعه القاهرة مقابل الغاز المسال.

وقال مارتين مورفي، من شركة “وود ماكنزي”: “تكلفة هذه العقود أعلى، لكن الحصول على أسعار أفضل قد يعني ترسيخ وضع مصر كمستورد للغاز لفترة أطول. من المرجح أن تسعى البلاد لإبرام عقود طويلة الأجل لخفض الأسعار.”

شاركها.