“مرحبا بكين”، من إنتاج تلفزيون CATV، كعمل ثقافي بصري مميز، يُعيد رسم العلاقة بين المشاهد العربي والثقافة الصينية من زاوية نادرة وشخصية.

يتنقل البرنامج بين أزقة العاصمة الصينية بكين وحدائقها، من معابدها العتيقة إلى أسواقها الشعبية، ومن ورش الحِرف التقليدية إلى ساحات الشعر والغناء، ليقدّم تجربة معايشة حيّة للتراث الصيني المادي وغير المادي.

 

يتبنى البرنامج رؤية ثلاثية الأبعاد، ما يجعله مختلفا عن الكثير من البرامج الماثلة:

 

  1. الثقافة: تقديم التراث الصيني المادي وغير المادي بقالب معاصر مرن وصورة مباشرة من الأسواق والحدائق العامة والشارع او المعرض أوالمطبخ.

 

  1. الحداثة: تسليط الضوء على الابتكارات والمواءمة بين الماضي العميق والحاضر الضارب في السماء، وعلى التجارب الشخصية لأصحاب المهن التقنية (مصمم الأزياء – الطباخ – مبنكر الألعاب مثل طابة الريش).

 

  1. التواصل: خلق حوار مباشر بين الصينيين والمجتمعات العربية من خلال تقديم الصينيين لتراثهم التقليدي واعتزازهم به وحمايته بعيدا عن السرد التاريخي، كما يشارك مقدم او مقدمة البرنامج بلغته العربية أو الصينية، في شرح وتقريب وتبسيط الصورة الطبيعية والجمالية، أكان تراثا ماديا أو غير مادي.

 

بين المكان والإنسان: تراثٌ ينبض بالحياة

 

تقوم كل حلقة من حلقات البرنامج على بنية سردية بسيطة لكنها فعّالة: الإعلامي العربي يحضر، يُجرّب، يسأل، وينقل. من تجربة ارتداء الزي التقليدي الصيني “الهانفو” إلى الغوص في تفاصيل فن الزخرفة “جينغ تايلان”، يتعامل البرنامج مع التراث بوصفه كيانًا حيًا، لا مجرّد خلفية بصرية.

 

وفي معالم مثل معبد السماء والمدينة المحرّمة، لا يقتصر السرد على الجانب المعماري أو السياحي، بل يتعمّق في الخلفية الرمزية والفلسفية التي حملتها تلك الأماكن عبر القرون.

 

التراث غير المادي: الذاكرة المستمرة

 

يلفت البرنامج الأنظار أيضًا إلى حضور قوي للتراث غير المادي، في صورٍ متنوعة:

 

العلاج التقليدي الصيني (أي-تيو)، والذي يُعرض من منظور صحي وإنساني، يعكس فهمًا متجذرًا للعلاقة بين الجسد والطبيعة.

 

الأمسيات الشعرية في مواقع تراثية، حيث تلتقي القصيدة المعاصرة بالفضاء الإمبراطوري القديم.

 

الحِرَف اليدوية، التي تُقدَّم لا كأعمالٍ فلكلورية، بل كإنتاج حيٍّ قائم على الدقة والرمزية، وما زال يجد موقعًا له في الاقتصاد الثقافي المحلي، وحاجة قابلة للاستخدام في الحياة اليومية.

 

إعلام وسطي، لا دعائي

 

يتجنب “مرحبا بكين” الخطاب الترويجي المباشر، ويركّز بدلًا من ذلك على المشاهدة المباشرة والتجربة الشخصية.

 

يُفسَح المجال للمشاهد كي يُكوّن رأيًا ذاتيًا من خلال لقطات توثيقية عالية الجودة، ومداخلات مع مختصين محليين، يشرحون السياقات التاريخية والاجتماعية التي تحيط بالموضوع، دون إملاء أو تلقين.

 

كما أن اعتماد البرنامج على مقدّمين عرب يتحدّثون بلغتهم وثقافتهم، يعزّز الشعور بالقرب والمشاركة، ويحوّله إلى جسر حيّ بين الحضارتين العربية والصينية.

 

هو برنامج يُعيد الاعتبار للثقافة كجسر، وللتجربة كوسيلة للفهم، وللتراث كقيمةٍ حيّة في حاضر المدن، لا فقط في متاحفها.

 

نموذج للدبلوماسية الثقافية الناعمة

 

لا يمكن قراءة البرنامج بمعزل عن التحولات الجارية في العلاقات العربية-الصينية. فـ”مرحبا بكين” ليس مجرد عمل تلفزيوني، بل يدخل في إطار أوسع من الدبلوماسية الثقافية، حيث تسعى الصين إلى تقديم نفسها كقوة حضارية ناعمة، قادرة على الحوار والتأثير دون صدام.

 

وفي المقابل، يُعد البرنامج فرصة نادرة للمشاهد العربي للاطلاع على الصين الواقعية: بكل تنوّعها، وتناقضاتها أحيانًا، وعمقها دائمًا، ويوفر له فرصة التعرف على ثاني اكبر اقتصاد في العالم ويشجعه على السياحة في الصين بعيدا عن الأفكار المسبقة او النمطية غير الواقعية.

 

“مرحبا بكين” ليس مجرد برنامج ترفيهي، بل مشروع ثقافي طموح يعكس فلسفة (CATV) في بناء جسور تفاهم متبادل. بتوازنه بين الأصالة والابتكار، واستجابته لاهتمامات المشاهد العربي، يثبت أن التلفزيون باقٍ كوسيلة مؤثرة في حوار الحضارات. وفي ظل الشراكات الجديدة مثل تعاون شانشي، يظل البرنامج نموذجاً لإعلامٍ يبني ولا يهدم.

 

إن أهمية “مرحبا بكين” لا تكمن فقط في المعلومات التي يقدّمها، بل في الطريقة التي يفتح بها نافذة مختلفة على حضارة وواقع معيش، قلّما نصل إليه عبر الأخبار أو الوثائقيات التقليدية.

 

“مرحبا بكين” يسعى إلى كسر الصور النمطية عن الصين، من خلال عرض الحياة اليومية في بكين بلمسة إنسانية تظهر طبيعة الصين وبساطة حياة الشعب الصيني الودود والطيب، مع التركيز على العمق الثقافي والتاريخي للحضارة الصينية والتقاليد الشعبية التي يتناقلها الصينيون جيل بعد جيل، هذا البرنامج الذي يأخذ طابع نعريفي بلغة توثيقية سلسة تتداخل فيها اللغة العربية مع اللغة الصينية التقليدية يعزز من أهمية التبادل الثقافي والتقني بين الصين والعالم العربي. وقد نجح مؤخراً في تعزيز اهتمام العرب على حقيقة الصين بعيدا عن الصورة النمطية التي تبثها وسائل الإعلام الغربية.

 

ولعلّ هذا ما يجعل من “مرحبا بكين” إضافة قيّمة في المشهد الإعلامي العربي، ومثالًا يحتذى في تقديم الثقافة بأسلوبٍ محترم، نابض، وقريب من الإنسان.

 

شاركها.