قفزت مبيعات السندات عالمياً إلى مستوى قياسي العام الجاري، إذ يستفيد المقترضون من ظروف سوقية ميسرة لتمويل كل شيء بدءاً من طفرة مشروعات الذكاء الاصطناعي وصولاً إلى عودة نشاط صفقات الاستحواذ.
شهد عام 2025 وتيرة إصدار قوية، لتسجل سوق السندات رقماً قياسياً جديداً بلغ 5.95 تريليون دولار، متجاوزة أعلى مستوى سنوي سابق سُجل في 2024، بحسب بيانات جمعتها “بلومبرغ”. ما يزال أمام السوق أكثر من شهر على نهاية العام، فيما تستعد “وول ستريت” لأكثر أشهر نوفمبر زخماً منذ أكثر من عقد.
إصدارات الديون
هيمنت المؤسسات المالية على جانب كبير من المبيعات، إلى جانب زيادة إصدارات الحكومات لتمويل عجوزات الموازنة المتضخمة. كما جعلت موجة الإصدارات الضخمة الأخيرة من شركات مثل “ألفابت” الشركة الأم لـ”جوجل” ومالكة “فيسبوك” “ميتا بلاتفورمز” قطاع الاتصالات في الصدارة، بعدما ارتفع حجم ديونه المُصدرة بنحو الثلثين مقارنة بالعام الماضي.
اقرأ أيضاً: “ألفابت” تطرح سندات بـ25 مليار دولار لتمويل توسعها بالذكاء الاصطناعي
يأتي هذا الزخم فيما يحوم مقياس لمخاطر الائتمان عالمياً قرب أدنى مستوياته منذ 2007، رغم أن هذا السيل من الإصدارات بدأ يوسع الفروقات الائتمانية للشركات. رغم ذلك، فإن الطلب يفوق المعروض من إصدارات الديون، إذ تتجاوز عوائد المستثمرين الإجمالية منذ بداية العام 7%، وهي الأفضل خلال 5 سنوات.
قالت سابرينا فوكس من “فوكس ليغال ترينينغ” (Fox Legal Training) والخبيرة في تمويل الرافعة المالية: “نحن في فترة تبلغ فيها شهية الطلب على الائتمان والمرونة وإدارة الالتزامات ذرى غير مسبوقة. جميعها تتجلى في الوقت نفسه. السوق مُسعرة على نحو مثالي”.
إصدارات كبيرة في الولايات المتحدة
في الولايات المتحدة الأميركية جمعت شركة “ميتا” طلبات اكتتاب بلغت مستوى قياسياً قدره 125 مليار دولار، لصفقة بقيمة 30 مليار دولار في 30 أكتوبر الماضي، في أعلى طلب يُسجل على إصدار سندات لشركة ما. كانت تلك أكبر صفقة سندات عالية التصنيف في الولايات المتحدة الأميركية منذ 2023، وفق بيانات “بلومبرغ”. كما قادت نفقات الذكاء الاصطناعي إصداراً ضخماً مقوم بعملات متعددة لـ”ألفابت” في 3 نوفمبر، وإصداراً مقوماً بعملتين لشركة “سوفت بنك غروب” اليابانية في أكتوبر المنصرم.
قال جون سايلز، رئيس ترتيب إصدارات الدرجة الاستثمارية في الأميركتين لدى “غولدمان ساكس غروب”، في مقابلة: “من المنطقي تماماً افتراض أن جزءاً كبيراً من الإنفاق الرأسمالي سيأتي في صورة دين”. وسلط الضوء على الميزانيات العمومية القوية لعمالقة التكنولوجيا هذه، ومن ثم قدرتها على الاستدانة في وقت يُخفض فيه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة وتبقى فروقات العائد منخفضة.
طالع المزيد: تجار السندات يراهنون على خفض الفائدة الأميركية نصف نقطة مئوية قبل نهاية 2025
يتجاوز الطلب حجم المعروض الصافي من السندات، أي الفارق بين الإصدارات الجديدة وتلك التي انتهت آجالها أو اشترتها الشركات لإلغائها. في السوق الأميركية، على سبيل المثال، كان لدى المستثمرين نحو 74 مليار دولار من السيولة لإعادة استثمارها أكثر من السندات التي باعتها الشركات، وفق تقديرات بنك “بي إن بي باريبا” في سبتمبر الماضي.
فورة نوفمبر لمبيعات السندات
حدث ذلك رغم أن مبيعات السندات من الدرجة الاستثمارية في الولايات المتحدة الأميركية سجلت رقماً قياسياً في سبتمبر وأكتوبر الماضيين معاً. بدأ نوفمبر الحالي بقوة أيضاً، رغم أن فرص الإصدار يُتوقع أن تضيق مع الاقتراب من عطلات نهاية العام خلال ديسمبر المقبل.
قال مات بريل، رئيس الائتمان الاستثماري في أميركا الشمالية لدى “إنفيسكو” (Invesco): “إذا استطعت الاحتفاظ بما يكفي من السيولة للأسبوعين المقبلين، فغالباً ستُجنى ثماره لأنني أعتقد أن المعروض سيجف بعد ذلك”.
اقرأ أيضاً: تسارع وتيرة إصدارات السندات الدولارية في المنطقة وسط طلب قوي
كما يضخ المقترضون الأميركيون زخماً إضافياً في أوروبا. في الأسبوع الحالي وحده، جمعت “ألفابت” و”كولغيت بالموليف” (Colgate-Palmolive) و”بوكينغ هولدينغز” و”مورغان ستانلي” ديوناً مقومة باليورو، بينما أتمت شركة “فيرايزون كوميونيكيشنز” أول صفقة لها بالإسترليني منذ 2020، بحسب بيانات “بلومبرغ”.
ما يزال الزخم مستمراً خلال ساعات اليوم، مع توقع الانتهاء من تسعير 11 شركة إصدار لصفقات في أوروبا قبل الطرح، من بينهم “أورنج” وبنكا “كاكسا بنك” (CaixaBank) و”رايفايزن بنك إنترناشونال” (Raiffeisen Bank International). تعمل “أورنج” على طرح سندات من 5 شرائح مقومة باليورو في أكبر صفقة إصدار ديون لها منذ 2019، حسبما أظهرت بيانات “بلومبرغ”.
عصر أزمات الديون
أسهم ارتفاع الاقتراض الحكومي في دفع مبيعات السندات إلى تسجيل مستويات قياسية، منذ أن تسببت أزمة وباء كورونا في اضطراب الموازنات العامة. بلغت حصة السندات ذات الدرجة الاستثمارية الصادرة عن الكيانات المرتبطة بالحكومة 69% العام الجاري، وهي أكبر نسبة منذ الأزمة المالية العالمية في 2010، وفق حسابات “بلومبرغ”.
لاحظ صندوق النقد الدولي هذا التحول الشهر الماضي، وحذر من أن الدين العام العالمي سيرتفع فوق 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2029، وهو أعلى مستوى منذ 1948 عندما كانت الدول تتعافى من الحرب العالمية الثانية.
ومن بين الإصدارات العامة التي جرى تسويقها عبر تحالفات من البنوك الاستثمارية العام الحالي، تصدرت إسبانيا طرح سندات سيادية عبر جمع 35 مليار يورو (40 مليار دولار) من 3 إصدارات. تأتي صفقة السندات البريطانية البالغة 14 مليار جنيه إسترليني (18 مليار دولار) في سبتمبر الماضي، وصفقة إيطاليا على دفعتين بقيمة 18 مليار يورو في يناير من العام الجاري، ضمن الأكبر حجماً. قد استقطبت إسبانيا وإيطاليا طلبات اكتتاب قياسية تجاوزت 140 مليار يورو لكل منهما.
اقرأ أيضاً: السيادي السعودي يجمع 1.65 مليار يورو في أول إصدار سندات مقومة باليورو
رغم ذلك، فالسوق بعيدة عن “فوضى ديون” بلا ضوابط. إذ جاءت صفقات الشركات الضخمة الأخيرة من كيانات ذات تصنيفات ائتمانية مرتفعة ومعروفة جيداً، وقد تؤدي المبالغ الكبيرة التي تُجمع إلى مزاحمة جهات إصدار محتملين آخرين.
وتكشف مؤشرات السوق بالفعل أن الزيادة الكبيرة في الإصدارات بدأت تضغط على علاوات المخاطر، إذ اتسع متوسط فروقات العوائد للسندات الأميركية من الدرجة الاستثمارية إلى 82 نقطة أساس الإثنين الماضي.
قال مارك كليغ، المتداول الأول للدخل الثابت لدى “أولسبرينغ غلوبال إنفستمنتس” (Allspring Global Investments): “هناك العديد من السندات الأدنى تصنيفاً التي لا يمانع المستثمرون بيعها لشراء هذه الإصدارات التي تتمتع بسيولة عالية والمصنفة “AA”. وأضاف: “يبقى السؤال: متى يمكن للمستثمرين رفع الراية البيضاء والشعور بالارتياح تجاه اتخاذ زيادة الاستثمار في قطاع التكنولوجيا؟”.
تمويل صفقات الاندماج والاستحواذ
مع ذلك، يتجلى وفرة السيولة المالية أيضاً في أسواق الديون مرتفعة العائد. فقد انضم حشد من الممولين، من بينهم “بنك أوف أميركا” و”سيتي غروب” و”مورغان ستانلي”، إلى أكبر صفقة شراء بالاقتراض على الإطلاق، عبر المشاركة في تمويل دين بقيمة 20 مليار دولار يدعم الاستحواذ على صانعة ألعاب الفيديو “إلكترونيك آرتس”.
اقرأ المزيد: إنفوغراف: “السيادي السعودي” يستحوذ على سابع أكبر شركة ألعاب فيديو بالعالم
تجاوزت قيم صفقات الاندماج والاستحواذ عالمياً تريليون دولار في الربع الثالث للمرة الثانية فقط في التاريخ، وفق بيانات جمعتها “بلومبرغ”. يمثل ذلك تحولاً بعد بيئة فاترة في وقت سابق من العام أعقبت اضطرابات الرسوم الجمركية الأميركية.
يتوقع كونور هيليري، الرئيس المشارك لـ”جيه بي مورغان تشيس آند كو.” في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، رؤية “صفقات كبرى في منطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا العام المقبل”، في ضوء انخفاض أسعار الفائدة، وتحسن الرؤية بشأن التقييمات، وتراكم صفقات بانتظار التنفيذ. وعبر الرئيس التنفيذي لـ”غولدمان ساكس”، ديفيد سولومن، عن رؤى مشابهة مؤخراً، إذ يلاحظ “انتعاشاً مذهلاً في النشاط”.
قال أنيش شاه، الرئيس العالمي لأسواق الدين لدى “مورغان ستانلي”، لـ”بلومبرغ” على هامش مؤتمر الرافعة المالية للبنك مؤخراً: “بالنسبة إلى ائتمان من فئة “B” عالي الجودة أو من فئة “BB”، يمكن لسوق تمويل صفقات الشراء بالاقتراض أن تضاعف حجم حتى أكبر عمليات التمويل التي شهدتها السوق العام الجاري”.
اختتم شاه: “قدرة تمويلية حالياً مرتفعة للغاية. نحن في بيئة توسعية بالنسبة إلى الأصل المناسب الجيد، وإذا بدأنا نرى مزيجاً من المستثمرين في الإصدارات المسوقة عبر البنوك والمستثمرين في الائتمان الخاص يعملان معاً، فإن أحجام الديون سترتفع بشكل ملحوظ. هناك وفرة كبيرة من السيولة في السوق في الوقت الراهن”.






