في السنوات الثلاث التي انقضت منذ إصدار ”تشات جي بي تي“ (ChatGPT)، استثمرت شركات التقنية في الولايات المتحدة والصين مئات مليارات الدولارات في مراكز البيانات والرقائق والمواهب، للتفوق على بعضها بعضاً في بناء نماذج ذكاء اصطناعي أكثر تطوراً.
على نحو متزايد، لم يعد الهدف المعلن مجرد ذكاء اصطناعي أفضل، بل تقنية أكثر قوة يُشار إليها غالباً باسم الذكاء الاصطناعي العام (AGI).
وبعد أن كان يُنظر إليه على أنه فكرة هامشية، أصبح الذكاء الاصطناعي العام ما تجتمع عليه مختبرات الذكاء الاصطناعي الرائدة، فهو يوجه خرائط طريق البحث ومواد التسويق ومناقشات السياسات، مع قلق بعض المشرعين الأميركيين وقادة الذكاء الاصطناعي بشأن الآثار المترتبة على الأمن القومي إذا وصلت دول أخرى (والمقصود هنا الصين) إلى هذا الإنجاز أولاً.
أمر تنفيذي أميركي يفرض إجراءات أمنية على الذكاء الاصطناعي
لكن على الرغم من كل هذه الضجة، فإن مسألة ماهية الذكاء الاصطناعي العام ما تزال مليئة بالارتباك. يختلف الأكاديميون والمديرون التنفيذيون في صناعة التقنية حول كيفية تعريفه، بما في ذلك مقدار التركيز على القيمة الاقتصادية، وما إذا كان الذكاء الاصطناعي العام سيتجاوز القدرات البشرية.
هناك أيضاً خلاف حول متى يمكن تحقيقه وما إذا كان من الممكن بناؤه، على الأقل باستخدام الذكاء الاصطناعي كما هو مصمم حالياً.
ما هو الذكاء الاصطناعي العام؟
لا يوجد تعريف واحد للذكاء الاصطناعي العام. تعرّف شركة “أوبن إيه آي”، التي طورت “تشات جي بي تي”، الذكاء الاصطناعي العام بأنه أنظمة تتفوق على البشر في معظم المهام المفيدة اقتصادياً.
تركز ورقة بحثية من “جوجل ديب مايند” في عام 2023 بشكل أقل على القيمة الاقتصادية. إذ تحدد معايير تركز على التنوع، مثل التفوق على البشر في العمل المفيد أو تعلم مهارات جديدة باستخدام بيانات نادرة.
تذهب “آرك برايز فاونديشن” (ARC Prize Foundation)، وهي المؤسسة غير الربحية التي تقف وراء معيار الذكاء الاصطناعي العام الشهير، إلى أبعد من ذلك وتقول إن القيمة الاقتصادية “هي مقياس غير صحيح للذكاء”.
أيُّ هواجس تؤرق سام ألتمان كل ليلة؟
بدلاً من ذلك، تقدم المنظمة تعريفاً مختلفاً: “الذكاء الاصطناعي العام هو نظام يمكنه اكتساب مهارات جديدة بكفاءة خارج بيانات التدريب الخاصة به”.
تتغير المفردات باستمرار. بدلاً من “الذكاء الاصطناعي العام”، يفضّل الرئيس التنفيذي لشركة “أنثروبيك” (Anthropic) داريو أمودي استخدام مصطلح “الذكاء الاصطناعي القوي”.
صاغ مصطفى سليمان، رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في شركة “مايكروسوفت”، مصطلح “الذكاء الاصطناعي القادر”. وفي الآونة الأخيرة، بدأت شركات، ومنها “ميتا بلاتفورمز” و”أوبن إيه آي” تتحدث عن “الذكاء الفائق”، وهو نظام افتراضي أقوى من الذكاء الاصطناعي العام، ويتفوق على الذكاء البشري.
يقلد اللغة البشرية لكنه لن يملك المشاعر
قدمت “أوبن إيه آي” العام الماضي خارطة طريق نحو الذكاء الاصطناعي العام من خلال تفصيل المراحل الخمس التي تتوقعها للذكاء الاصطناعي.
تبدأ القائمة ببرامج المحادثة التي بدأت طفرة الذكاء الاصطناعي، وتتقدم إلى أنظمة التفكير والوكلاء الذين يتصرفون نيابة عن الشخص، على غرار المنتجات التي أصدرتها “أوبن إيه آي” ومنافساتها في الأشهر الأخيرة.
المرحلتان الأخيرتان، وفقاً لـ”أوبن إيه آي”، هما أنظمة الذكاء الاصطناعي التي “تساعد في الاختراع” والنماذج التي يمكنها “القيام بالعمل كمؤسسة”.
الذكاء الاصطناعي العام، بأي تعريف يُنسب إليه، ليس هو نفسه الكيان الواعي أو الحسي الذي لديه “مشاعر” ويتصرف بناءً عليها. في الوقت الحالي، ليس هناك يقين من أن الذكاء الاصطناعي سيتقدم إلى هذا المستوى، على الرغم من أن تقليده للغة البشرية جعل المستخدمين يشعرون بخلاف ذلك في بعض الأحيان.
أدت التعريفات والمصطلحات المربكة إلى تقييمات مختلفة تماماً لحالة التقنية. قال بعض خبراء الذكاء الاصطناعي إن الذكاء الاصطناعي العام ما يزال على بعد سنوات، إن لم يكن عقوداً. يعتقد باحثو الذكاء الاصطناعي الآخرون أن النماذج الحالية مثل “لاما” من “ميتا” و”تشات جي بي تي” من “أوبن إيه آي”و “كلود” من “أنثروبيك” قد تجاوزت هذا الحد بالفعل.
من صاغ مصطلح الذكاء الاصطناعي العام؟
طارد الباحثون فكرة الذكاء الاصطناعي الأكثر تعميماً بشكل متقطع على مرّ عقود، مع محاولة واحدة لبناء “حل عام للمشكلات” يعود تاريخها إلى الخمسينيات.
قبل إصدار “تشات جي بي تي”، تحول جزء كبير من تركيز المجال إلى أنظمة “ضيقة” مصممة للتفوق في مهام محددة بموجب قواعد ثابتة، مثل وضع علامات على الصور أو تلخيص النص.
اكتسبت فكرة الذكاء الاصطناعي العام بعض الزخم في منتصف العقد الأول من هذا القرن، وشاعت بفضل عالم الكمبيوتر بن غورتزل وكتابه الصادر عام 2007 بعنوان “الذكاء الاصطناعي العام”.
وتعمل شركة “ديب مايند” على ذلك منذ أن وضعت الشركة بناء “الذكاء الاصطناعي العام” على الصفحة الأولى من خطة عملها في عام 2010، كما قال شين ليغ، المؤسس المشارك للشركة وكبير علماء الذكاء الاصطناعي العام لديها.
في عام 2021، قال ليغ إنه يعتقد منذ فترة طويلة أن هناك فرصة بنسبة 50% للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام بحلول عام 2028، وفرصة بنسبة 90% لبلوغه بحلول عام 2040. وقال ليغ إنه يتبنى هذا الرأي منذ عام 1999.
ما هي المخاطر في الأفق؟
يقول بعض الخبراء إن الذكاء الاصطناعي العام قد يطلق العنان لـ”انفجار ذكاء”، وهي موجة من الاختراقات التي تحدث تحولاً مفاجئاً في الصناعات والمجتمع ككل.
في أحد السيناريوهات الافتراضية، قد يحسّن نظام الذكاء الاصطناعي العام نفسه بسرعة، محققاً مستوى من التطور يسمح له بعلاج الأمراض، وأتمتة مزيد من العمل، وتسريع التقدم البشري.
كتب سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي”، في منشور على مدونة في فبراير: “في غضون عقد، ربما يكون كل شخص على وجه الأرض قادراً على إنجاز أكثر مما يستطيعه الشخص الأكثر تأثيراً في يومنا هذا”.
فقاعة الذكاء الاصطناعي محور نقاشات البنوك المركزية باجتماعات صندوق النقد
تشير دراسة أجرتها مؤسسة “راند” (RAND)، مستشهدة بمقابلات وأعمال خبراء الذكاء الاصطناعي والمديرين التنفيذيين، إلى الآثار المحتملة على الأمن القومي والنظام الاقتصادي العالمي.
وتحذّر من أن الذكاء الاصطناعي العام قد يؤدي إلى اختراقات في المراقبة أو الحرب الإلكترونية أو الأسلحة ذاتية التشغيل، وتطرح ثمانية سيناريوهات، تتراوح من تحالف الذكاء الاصطناعي العام بقيادة الولايات المتحدة، إلى “ميزة استبدادية” تُحكم فيها الصين قبضتها على التقنية.
قال التقرير إن المركزية هي المفتاح، فإذا تمكنت دولة واحدة من الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام أولاً، قد تعيد تشكيل التوازن العسكري والاقتصادي العالمي. وفي الوقت نفسه، قد يمنح الوصول الأوسع الجماعات المارقة ميزة خطيرة.
ماذا يقول المشككون؟
على الرغم من كل تركيز الصناعة على الذكاء الاصطناعي العام، ما يزال هناك شكوك كبيرة حول متى وما إذا كان يمكن تحقيقه.
وجد استطلاع رأي في مارس 2025 شمل مئات الباحثين، ونشرته اللجنة الرئاسية لدى “جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعي” (AAAI) حول مستقبل أبحاث الذكاء الاصطناعي، اتفاقاً واسع النطاق على أن توسيع نطاق أنظمة اليوم، لن يكون كافياً للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام.
قال كبير علماء الذكاء الاصطناعي لدى “ميتا” يان ليكون، إن البرامج التي تقود روبوتات الدردشة بالذكاء الاصطناعي اليوم، والمعروفة باسم نماذج اللغة الكبيرة، تفشل لأنها “لا يمكنها التفكير قبل التصرف، ولا يمكنها القيام بأعمال في العالم الحقيقي أو التعلم من خلال الخبرة المجسدة وتفتقر إلى الذاكرة الدائمة والقدرة على التخطيط الهرمي”.
الذكاء الاصطناعي قادر على تحويل الاقتصاد ولو كان فقاعةً
يحذر بعض منتقدي الذكاء الاصطناعي أيضاً من أن نماذج اليوم هي “ببغاوات عشوائية”، حيث تعيد خلط أنماط النص من دون فهم حقيقي، وهو اختصار للشكوك حول ما إذا كان التقليد الإحصائي يمكن أن يرقى إلى مستوى الذكاء الحقيقي. وما يزال الباحثون أيضاً لا يفهمون تماماً كيفية عمل الذكاء البشري، ناهيك عن كيفية تكراره أو تجاوزه.
حاججت ورقة بحثية نُشرت في يوليو 2025 بقيادة مارغريت ميتشل، كبيرة علماء الأخلاق في شركة “هاغينغ فيس” (Hugging Face) الناشئة للذكاء الاصطناعي، بأن الغموض المحيط بالذكاء الاصطناعي العام يغذي الضجيج والمعايير المتزعزعة، إذ غالباً ما يُوجه التمويل من خلال دورات الضجيج أو مصالح المستثمرين بدلاً من أولويات البحث. يجادل المؤلفون بأنه يجب التعامل مع ادعاءات الذكاء الاصطناعي العام الشاملة بتشكك ما لم تكن مرتبطة بأهداف واضحة واختبارات صارمة وفوائد مثبتة.
ما هي الشركات التي تسعى إلى الذكاء الاصطناعي العام؟
جعلت شركة “أوبن إيه آي” الذكاء الاصطناعي على مستوى الإنسان هدفها منذ عام 2015، وتقول إن مهمتها هي ضمان أن “يفيد الذكاء الاصطناعي العام البشرية جمعاء”. من جانبها، صرحت شركة “جوجل ديب مايند” منذ فترة طويلة بأنها تعمل على تحقيق الذكاء الاصطناعي العام، ونشرت خرائط طريق وخطط أمان لهذا المسار.
بعد النجاح الباهر الذي حققه “تشات جي بي تي”، بدأ المنافسون يتبنون خطاباً مشابهاً، فأنشأت “أمازون” مختبراً للذكاء الاصطناعي العام في سان فرانسيسكو، بقيادة مسؤول تنفيذي سابق في “أوبن إيه آي”.
وقالت “ميتا” إن هدفها هو إنشاء الذكاء الاصطناعي العام، ثم تحولت إلى “الذكاء الفائق الشخصي”، وقد وصف مارك زوكربيرغ الذكاء الاصطناعي بأنه أداة لتمكين الأفراد.
“أوبن إيه آي”: إنفاقنا قد يتجاوز 115 مليار دولار حتى 2029
وتتبع الشركات المنافسة في الصين نفس النهج، فقد جعلت شركة “علي بابا” (Alibaba) الذكاء الاصطناعي العام “هدفها الأساسي”. وتقول شركة “ديب سيك” (DeepSeek) إن هدفها هو “كشف لغز الذكاء الاصطناعي العام بفضول”، وهي تسعى إلى أساليب تدريب أكثر كفاءةً لبناء تقنية ذكاء اصطناعي أقوى، والتنافس مع الشركات الأميركية.
إلى أي مدى تقول الشركات إنها متقدمة؟
في سبتمبر 2024، قال ألتمان: “إن الأنظمة التي تبدأ في الإشارة إلى الذكاء الاصطناعي العام بدأت تظهر”، بل وألمح إلى أنه “يمكن أن نملك ذكاءً خارقاً في غضون بضعة آلاف من الأيام”، مع الاعتراف بأن الأمر قد يستغرق وقتاً أطول.
بعد مرور عام، بدا أن “أوبن إيه آي” ما تزال تكتشف طريقها إلى هذا الإنجاز. أصدرت “أوبن إيه آي” أخيراً نموذج الذكاء الاصطناعي “جي بي تي 5” (GPT-5) الذي طال انتظاره في أغسطس، وقدم تحسينات في الترميز والكتابة ومحاكاة عملية التفكير البشري. لكن بالنسبة لكثير من المستخدمين، بدا الأمر وكأنه خطوة تدريجية إلى الأمام أكثر من كونه قفزة.
في تصريحات حول الإطلاق، أقر ألتمان بأننا “ما زلنا نفتقد شيئاً مهماً جداً” للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام. حتى الآن، لا يوجد سوى قليل من الوضوح بشأن ماهية هذه القطعة المفقودة، ومدى حاجة شركات التقنية إلى إعادة التفكير في البنية الأساسية للذكاء الاصطناعي، وإلى أي مدى وصلوا إلى الطريق لتحقيق الذكاء الاصطناعي العام.
قال رئيس”أنثروبيك” التنفيذي أمودي إن “الذكاء الاصطناعي القوي” قد يصل بحلول عام 2026. وفي الآونة الأخيرة، بينما رفض تسمية الذكاء الاصطناعي العام باعتباره “مصطلحاً تسويقياً”، توقع أن تبدو المرحلة التالية وكأنها “دولة من العباقرة في مركز بيانات”، وهو أمر يعتقد أنه “محتمل جداً” في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام.
على النقيض من ذلك، قدّر ديميس هاسابيس، المؤسس المشارك لشركة “ديب مايند”، أن الذكاء الاصطناعي العام ما يزال على بعد خمس إلى عشر سنوات، واصفاً التوقعات الأقصر بأنها غير واقعية.
وقال في وقت سابق من هذا العام: “هناك طريق طويلة جداً، من وجهة نظري، قبل أن نصل إلى الذكاء الاصطناعي العام”، مضيفاً أن الجداول الزمنية تبدو وكأنها تتقلص فقط لأن “تعريف الذكاء الاصطناعي العام يتم تخفيفه”.
بالنسبة لجميع التقدم الذي أحرزته روبوتات الدردشة الذكية وما يُسمى بالوكلاء في السنوات الثلاث الماضية، إلا أن أفضل نماذج اليوم ما تزال تختلق الحقائق بثقة وتتعثر في مهام “بسيطة من الناحية المفاهيمية” يجيب عليها البشر بسهولة، بما في ذلك الأسئلة التي يمكن لطفل في المدرسة الابتدائية التعامل معها، حتى أثناء حلهم لمشكلات أكثر تعقيداً.
يمكن أن تكون المعايير مضللة أيضاً. قد يتعثر النظام الذي يتفوق في الاختبارات المعيارية عند إعادة صياغة نفس الأسئلة أو عند مواجهة بيانات واقعية فوضوية. تؤكد “ديب مايند” أن الذكاء الاصطناعي العام يجب أن يكون موثوقاً به عبر مجموعة متنوعة من الظروف.






