يعلم جميع المستثمرين أنه لا ينبغي وضع كل البيض في سلة واحدة. لماذا إذاً يراهن وادي السيليكون على طريقة واحدة فقط لبناء الذكاء الاصطناعي؟

هذا العام، ستنفق أكبر أربع شركات تقنية في العالم 344 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي، معظمها على مراكز البيانات المُستخدمة لتدريب وتشغيل ما يُسمى بنماذج اللغة الكبيرة مثل ”تشات جي بي تي“ (ChatGPT)، القادرة على معالجة المحتوى النصي والصوتي والمرئي. وتعتمد هذه التقنية بشكل كبير على نفس تقنية التنبؤ بالرموز التي تتالى متسلسلةً.

“أوبن إيه آي”: إنفاقنا قد يتجاوز 115 مليار دولار حتى 2029

بالطبع، لم يذهب إنفاقهم سدى. تشهد روبوتات الدردشة الشخصية نمواً سريعاً، إذ بدأت بعض شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة في تحقيق التعادل، وما تزال الشركات في المراحل الأولى من تعزيز نفسها باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي. تُمثل نماذج اللغة الكبيرة أول تقنية ذكاء اصطناعي تُطبّق على نطاق واسع: فعلى سبيل المثال، يستخدم أكثر من 700 مليون شخص ”تشات جي بي تي“ أسبوعياً.

لكن التاريخ حافلٌ بأشخاصٍ ركّزوا على نهجٍ “رابح” واحدٍ في التقنية ثم تخلفوا عن الركب عندما تحوّل المشهد فجأةً. تخيّلوا تفاني ”بلاك بيري“ في استخدام لوحة مفاتيح غير افتراضية قبل أن تسحقها شركة ”أبل“ عبر شاشات اللمس، أو رهان ”ياهو“ الكبير على البوابات الإلكترونية بينما هيمنت ”جوجل“ بهدوء على مجال البحث.

هل تحوّل مفاجأة غير متوقعة المشهد؟

هل يُمكن لنهجٍ جديدٍ في الذكاء الاصطناعي أن يُغيّر فجأةً كل رأس المال المُنفق على تقنية روبوتات الدردشة؟ ربما. قدّمت شركة ”ديب سيك“ (DeepSeek) الصينية لمحةً تعرض كيف يُمكن للأساليب غير التقليدية أن تُفاجئ السوق عندما أطلقت نموذجاً أصغر وأكثر كفاءةً في يناير ونشرت مخططاته على الإنترنت.

كان نموذج ”ديب سيك“ نموذج لغة كبيراً، لكن أسلوبه أشار إلى أن الموارد المُخصّصة لأبحاث الذكاء الاصطناعي مجتمعة صنعت قوة بإمكانها دفع منتجات جديدة. على مرّ تاريخه، تقدّم الذكاء الاصطناعي من خلال دمج الرؤى السابقة مع الأفكار الجديدة، وقد لا يكتفي السعي وراء آلاتٍ فائقة الذكاء بأقلّ من ذلك.

“ميتا” تقترب من طي صفحة برامج الذكاء الاصطناعي المجاني

جزء كبير من هذا الاستكشاف قائم الآن في أماكن مثل ”كوفاريانت“ (Covariant)، وهي شركة ناشئة في منطقة خليج سان فرانسيسكو تُطوّر برمجيات لمساعدة الآلات على إدراك محيطها بدلاً من التنقيب في أنماط البيانات.

تميل الشركات التي تُركز على الروبوتات والطائرات بدون طيار، واكتشاف الأدوية، ونمذجة المناخ، إلى الابتعاد بطبيعتها عن هوس نموذج اللغة لأن تقنياتها تحتاج إلى التفاعل مع ظروف العالم المادي آنياً. تعمل ”أتمان لابز“ (Atman Labs)، وهي شركة بريطانية ناشئة، على استخلاص أفكار تعود إلى ما قبل ظهور التعلم العميق، التي “كانت مهمة أيضاً وطواها النسيان”، كما قال مؤسسها المشارك سومون سادو.

مشكلات بلا حلول

يُحاكي مسارها جهود ”جوجل ديب مايند“ التي استمرت لسنوات لبناء ذكاء اصطناعي فائق عبر مسارات مختلفة -من أنظمة الذكاء الاصطناعي المُصممة للألعاب مثل ”ألفاغو“ (AlphaGo) إلى تقنية قائمة على المحاكاة تُسمى التعلم المُعزز- قبل أن يُحوّل إصدار ”تشات جي بي تي“ تركيز الشركة بالكامل نحو نماذج اللغة الكبيرة.

“أوبن إيه آي” تطلق أقوى نماذجها للذكاء الاصطناعي “GPT-5” مجاناً

الآن، تظهر بعض الثغرات في فرضية نموذج اللغة الكبير، بدءاً من التكاليف الباهظة وصولاً إلى احتمال تناقص العوائد. أحدث نماذج ”أوبن إيه آي“ أو ”جوجل“ أفضل بقليل من النماذج القديمة، حتى مع ضخ مزيد من الأموال في تطويرها. لم تختفِ الهلوسة، ما يُعيق مسار تبنيه لدى شركات الرعاية الصحية أو التحليل القانوني.

أظهرت دراسة حديثة نُشرت في دورية (Nature) أيضاً أن قدرات التفكير الاجتماعي لنماذج اللغة -أي القدرة على فهم ما يقصده الناس حقاً في المحادثة- تعتمد على مجموعة صغيرة جداً من ميزات النموذج، وأن تعديلات طفيفة يمكن أن تُعطّلها.

يثير هذا تساؤلات جوهرية حول موثوقيتها. وفي سياق متصل، أقرت ”أوبن إيه آي“ الشهر الماضي بأن ضمانات ”تشات جي بي تي“ للأشخاص المعرضين للخطر قد تتعطل أثناء المحادثات الطويلة. وجاء هذا الكشف بعد أن أعطى الروبوت تعليمات لإيذاء النفس لمراهق.

نماذج الذكاء الاصطناعي العربية.. أين وصلنا حتى الآن؟

وقد أشارت بعض الشخصيات الأكثر صراحةً في مجال التقنية إلى هذه العيوب. قال أليكس كارب، الرئيس التنفيذي لشركة ”بالانتير“ (Palantir).، في مؤتمر الذكاء الاصطناعي الأسبوع الماضي: “لقد أخطأ وادي السيليكون تماماً في المبالغة في الترويج لبرامج نماذج اللغة الكبيرة”. لطالما جادل يان ليكن، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في شركة ”ميتا بلاتفورمز“، بأن نماذج اللغة الكبيرة تُمثل “طريقاً مسدوداً” للآلات الأكثر ذكاءً لأنها لا تفهم محيطها المادي ولا تخطط للمستقبل. ويُحذّر من أنها مجرد “مولدات رموز”.

لن تختفي نماذج اللغة الكبيرة، لكن تاريخ الأسواق يُظهر مخاطر الافتتان بحل واحد. ينبغي على المستثمرين والشركات أن يبقوا متيقظين للتطورات التقنية وأن يكونوا مستعدين لتغيرات جذرية. ففي مجال التقنية، قد يحدث ذلك، بل كثيراً ما يحدث، قبل أن يتوقعه أحد.

شاركها.