يعمد رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب حالياً إلى تقويض استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وفي الوقت نفسه، يهدم موثوقية البيانات الاقتصادية الوطنية، ويستغل صلاحيات لجنة الاتصالات الفيدرالية لفرض رقابة على البرامج، ويقوّض قطاع الطب الحيوي ويدمر العلاقات التجارية الأميركية مع العالم عموماً.

في الأحوال العادية، كان مجتمع الأعمال الأميركي ليثور غضباً. لكن بدلاً من ذلك، سافروا إلى المملكة المتحدة الأسبوع الماضي لمرافقة الرئيس في عشاء رسمي مع الملك. ما السبب؟

إليكم نظريتي: تُعاني الشركات الأميركية، وسوق الأسهم الأميركية حالةً شديدة من حمى الذكاء الاصطناعي العام، وهي حالةٌ يؤدي فيها الإيمان بمستقبلٍ مثالي إلى اللامبالاة بالحاضر البائس.

في الأسبوع الماضي، كنتُ عضواً في لجنة ضمن فعالية بواشنطن نظمتها شركة ”أنثروبيك“ (Anthropic)، إحدى شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية الرائدة. كان محور النقاش هو ادعاء جريء بأن الذكاء الاصطناعي العام سيظهر بحلول النصف الأول من عام 2027، وبأنه أذكى من فائز بجائزة نوبل، وقادر على تجاوز الأداء البشري في جميع المجالات، وعلى العمل مستقلاً على مشاريع لأشهر، وأن يفعل كل ما يمكن لعامل عن بُعد فعله.

هل بالفعل سيرفع الذكاء الاصطناعي الإنتاجية فوراً؟

كان السؤال الحقيقي الوحيد هو: هل ستصل ”أنثروبيك“ إلى هذا الهدف أولاً، أم سيصل إليه أحد منافسيها؟ إنه ادعاءٌ لافتٌ للنظر، يشبه ادعاءات إيلون ماسك بشأن ”غروك“ وسام ألتمان بشأن ”تشات جي بي تي“.

قد يتبين أنه محض هراء. لطالما أيدتُ حجة كارل بوبر القائلة بأنه لا يمكن حتى من حيث المبدأ التنبؤ بشكل موثوق بالمسار المستقبلي للتطور التقني. لكن فهم الإيمان السائد بقوة الذكاء الاصطناعي التحويلية بين المديرين التنفيذيين للشركات وخبراء التقنية أمرٌ بالغ الأهمية لفهم اللحظة الثقافية والسياسية الراهنة في أميركا: إذا كان هناك تغيير جذري غير مسبوق في الذكاء البشري قادم قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، فلا شيء آخر يهم حقاً.

يبدو أن سوق الأسهم تؤمن بهذا أيضاً. يتجاهل المستثمرون بسعادة الرسوم الجمركية، والترحيل الجماعي، ومزيج من تباطؤ سوق العمل وارتفاع التضخم.

هل هناك أي شيء آخر يهم؟

يُعدّ تأثير هذه التطورات على عملية صنع القرار في مجلس الاحتياطي الفيدرالي موضع جدل. لكن النقطة الأهم -وهي أن الاتجاهات المتضاربة في الأسعار وسوق العمل تشير إلى صدمات سلبية شديدة في جانب العرض من الاقتصاد- غالباً ما تُغفل.

علاوة على ذلك، لا يؤثر أيٌّ من نقاط الضعف في الاقتصاد على شركات التقنية الكبرى، التي تُهيمن أسهمها الآن على سوق الأسهم تماماً، لذا لا يُهمّ الأمر حقاً. عليّ أن أسأل: هل يمكن أن يكون هذا صحيحاً؟ إذا كانت التفردية قادمة خلال العامين المقبلين، فهل هناك أي شيء آخر يهم؟

بيل دادلي: “الفيدرالي” تحت الحصار.. لكنه سيصمد

مهما كان رأيك في ترمب، فمن الواضح أنه مُتحمس لطموحات شركات التقنية الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي. في أعقاب يوم التحرير مباشرةً، بدا مرجحاً أن تردّ الحكومات الأجنبية باستهداف أكبر المُصدّرين الأميركيين، والمقصود هنا ما معظمه شركات تقنية- ورغم صعوبة فرض رسوم جمركية على محرك بحث أو شبكة تواصل اجتماعي، إلا أن صناعة التقنية الأميركية تواجه من حيث المبدأ جميع أنواع العواقب الضريبية والتنظيمية؛ ففي وقت سابق من هذا الشهر، غرم الاتحاد الأوروبي شركة ”ألفابت“ 3.5 مليار دولار بسبب ممارسات ”جوجل“ الإعلانية.

مع ذلك، لم تواجه صناعة التقنية الأميركية أي نوع من الانتقام الشامل والمنهجي. وقد أوضح ترمب أنه سيستخدم الرسوم الجمركية كسلاح للدفاع عن مصالح صناعة التقنية الأميركية في الخارج- وقد نجح إلى حد كبير. وقد تُضعف عادته في منح إعفاءات لشركات التقنية ذات العلاقات الواسعة قدرة رواد الأعمال والمبتكرين على المنافسة، لكن هذه مشكلة على المدى الطويل.

كيف سيكون المستقبل؟

مرة أخرى، إذا أخذنا ادعاءات صناعة التقنية على محمل الجد، فلا داعي للقلق على المدى الطويل. بعد بضع سنوات، لن يتحدث أحد عن جيمي كيميل، وسنشاهد جميعاً محتوى إعلامياً مصنعاً حسب الطلب. وسنغرق في الاكتشافات العلمية الجديدة. سيتجه منحنى إنتاجية العمل المكتبي نحو الانخفاض، وسيكون السؤال الأهم في الاقتصاد هو مدى سرعة الولايات المتحدة في حل المشكلات الصعبة المتعلقة بالروبوتات والبدء في أتمتة العمل البدني أيضاً. إذا أخذنا هذه التوقعات على محمل الجد، فسيتحقق هذا المستقبل بسرعة هائلة.

هل أي من هذا معقول ولو من بعيد؟ يثور عقل الشخص العادي أمام حجم وسرعة التغيير المتوقع. يتمثل الاتجاه الحالي بين الأذكياء غير التقنيين في النظر إلى التفاوت بين تقييمات الذكاء الاصطناعي والأرباح الفعلية، والإعلان عن وجود فقاعة سيكون لانهيارها آثار وخيمة على الاقتصاد. لكن إذا كان المطلعون على الصناعة على حق، فإن شركات الذكاء الاصطناعي، إن لم يكن أي شيء آخر، مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية.

لماذا يصعب قياس تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية؟

على أي حال، فإن السوق تفعل ما تفعله، محاولةً تقييم الاحتمالات في مواجهة حالة عدم اليقين. وباستعارة عبارة من زميلي مات ليفين، لا يُعد هذا نصيحة استثمارية.

ما يمكنني تقديمه هو ملاحظة حول السياسة الأميركية: يسهم الحماس حيال التحول المرتقب في الحياة الأميركية، المدفوع بالذكاء الاصطناعي، وكذلك والإيمان به إلى مستويات خطيرة من اللامبالاة في مجتمع الأعمال تجاه سياسات الحكومة.

إن النظر إلى إجراءات الإدارة بشأن التجارة أو الاحتياطي الفيدرالي أو جيمي كيميل بمعزل عن غيرها مغلوط. هناك إهمال متجذّر لسيادة القانون، وهي جوانب تعود إلى ما قبل الثورة الصناعية، وإلى حدٍّ ما حتى إلى تأسيس الجمهورية الأميركية.

كيف يُنشر الذكاء الفائق بأمان؟ 

يُرجّح ألا يكون لكل هذا أي تأثير، وأن أي أعباء تشكلها سياسات الرئيس على الاقتصاد ستطغى عليها سلسلة تطورات تقنية غير مسبوقة مدفوعة بالذكاء الاصطناعي. لكن هذا رهانٌ كبيرٌ جداً على مستقبل البلاد، إن لم يكن العالم. وفي اندفاعها لتشجيع مستقبل الذكاء الاصطناعي، تُهمل الإدارة مسألة كيفية نشر الذكاء الفائق الافتراضي بأمان.

إن الذكاء الاصطناعي من نواحٍ عديدة تقنية مثيرة، إذ إن السيارات ذاتية القيادة، على سبيل المثال، يمكن أن تنقذ كثيراً من الأرواح. لكن ليس من الحكمة أبداً إهمال الحاضر على أمل أن يكون المستقبل أفضل. يُقال غالباً إن أكثر عبارة في عالم الاستثمار تكلفةً هي: “هذه المرة مختلفة”. وهي خطيرة جداً حكومياً أيضاً.

شاركها.