في ظل ما يشهده السودان من أزمات، تبرز قصص الأمل والصمود لدى الشباب والنساء كمصدر إلهام يعكس جوهر الإرادة الإنسانية في مواجهة الظروف القاسية، ومن قلب الأحياء البسيطة، تتجدد الأحلام بالعيش الكريم والتعليم المنتج.

وهنا تبرز مساهمة البرامج التنموية مثل برنامج “صلتك” التابع لمؤسسة التعليم فوق الجميع، بدعم من صندوق قطر للتنمية وبالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في توفير فرص اقتصادية وتعزيز الأمن الغذائي للفئات الأكثر هشاشة.

فقد أثبتت تجارب شباب ونساء كسلا والقضارف أن الاستثمار في التعليم والعمل الجماعي لا يحقق الاكتفاء الذاتي فقط، بل يزرع بذور الاستقرار والتنمية المستدامة حتى في أكثر البيئات تحديا.

رزاز طالب أبكر (يسار) رفضت الاستسلام وبدأت من الصفر في تعلّم الزراعة (الجزيرة)

حلم الطفولة

في أحد الأحياء البسيطة بمدينة كسلا (شرق السودان)، كانت رزاز طالب أبكر تحلم بأن تصبح معلمة، أنهت دراستها الجامعية في كلية التربية، ومع انتقالها إلى قرية صغيرة بولاية القضارف بعد الزواج، ظلت متمسكة بحلمها بتعليم الأطفال، تماما كما ألهمها معلموها في مدينتها الأم.

لكن الواقع في السودان قاسٍ، من نزاعات مسلحة وأزمات اقتصادية متفاقمة إلى كوارث مناخية مثل الفيضانات التي دمرت الأراضي وشردت السكان، مما جعل من التعليم والعمل حاجة وجودية وأداة لإعادة بناء الحياة وتحقيق الأمل.

رفضت رزاز الاستسلام وبدأت من الصفر في تعلّم الزراعة، واستأجرت قطعة أرض صغيرة بمساعدة الجيران، لكن تكاليف الزراعة المرتفعة، من بذور وأسمدة، التهمت أرباحها في الموسم الأول، حينها أدركت أن النجاح في هذه البيئة يتطلب العمل الجماعي لا العمل الفردي.

رزاز (يمين) ساهمت في مساندة النساء بقريتها ودعهمهم
جانب من السيدات المساهمات في جمعية “ثقة” (الجزيرة)

جمعية ثقة

كونها الوحيدة في القرية الحاصلة على تعليم جامعي، بادرت بتأسيس جمعية زراعية، مستفيدة من معرفتها بالإجراءات القانونية والتنظيمية، جمعت أكثر من 30 مزارعا ومزارعة، وأسست جمعية “ثقة”، رمزا للثقة المتبادلة والإيمان بقدراتهم على التغيير.

بفضل التنظيم المجتمعي، أصبحت الجمعية مؤهلة للحصول على دعم من برامج تنموية، وسرعان ما اختيرت ضمن المستفيدين من الدعم المقدم من مؤسسة التعليم فوق الجميع وصندوق قطر للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي يهدف إلى دعم سبل العيش وتعزيز الأمن الغذائي في ولايات القضارف وكسلا ونهر النيل.

حصلت الجمعية على بذور محسنة، وتدريب متخصص في إدارة الحيازات الصغيرة والمشروعات الزراعية، بالإضافة إلى معدات أساسية من بينها مطحنة حبوب -الأولى من نوعها في القرية- وفرّها الشريك المحلي “زينب لتنمية المرأة”. هذه المطحنة غيرت حياة الأهالي، إذ كانت النساء والأطفال يقطعون خمسة كيلومترات لطحن الحبوب، واليوم باتت هذه الخدمة متاحة محليا وتدر دخلا إضافيا للجمعية.

وفي حديثها، قالت رزاز “جئت من مجتمع غير زراعي، لكنني تعلمت الزراعة وتعلمت قيمة التعاون، تحولت من شابة عاطلة عن العمل إلى امرأة منتجة تؤمن بقدرتها على النمو والتمكين”.

عبد المنعم محمد علي يشارك في مشروع التوظيف والعمل الذاتي
عبد المنعم محمد علي يشارك في مشروع التوظيف والعمل الذاتي (الجزيرة)

بين الغربة والمعاناة

وفي قرية نائية على أطراف ولاية كسلا، يقف عبد المنعم محمد علي (35 عاما) بين سنابل الذرة التي أنعشتها أمطار الخريف، يتأمل أرضه وقد عادت تمنحه الأمل بعد سنوات من الغربة والمعاناة.

نشأ محمد علي وسط أسرة بسيطة، وكان التعليم نافذته نحو مستقبل أفضل، وبعد إنهاء تعليمه الثانوي سافر إلى الصين حيث عمل في التجارة والبناء واكتسب مهارات جديدة، وكان يخطط للعودة إلى السودان رجلا ناجحا.

لكن عودته تزامنت مع اشتداد الحرب، فواجه البطالة والنزوح واضطر لترك كل ما بناه، قال محمد علي “أصعب لحظة حين نظرت في عيون أطفالي ولم أستطع أن أعدهم بوجبة الغد، الفقر كان مألوفا، لكن الإحساس بالعجز كان موجعا”.

في ظل هذه التحديات، شارك محمد علي في مشروع “التوظيف والعمل الذاتي من خلال تعزيز الأمن الغذائي وسبل العيش للسكان المتأثرين بالنزاع في السودان”، وحصل على فرصة للعمل في استصلاح الأراضي المتضررة من الفيضانات، وبدأ بزراعة أرض صغيرة، ثم تطورت قدراته وأصبح قادرا على إعالة أسرته وإعادة أطفاله إلى المدرسة.

فرص العمل

المشروع لم يوفر مصدر دخل لمحمد علي فحسب، بل أعاد الثقة إلى مجتمعات بكاملها، وعلى مدى العامين المقبلين يهدف المشروع إلى دعم 1500 أسرة إضافية في ولايات القضارف وكسلا ونهر النيل، أي ما يعادل 603 آلاف مستفيد مباشر، مع تركيز خاص على 17 ألفا و700 شاب وشابة (18-35 عاما) سيحصلون على فرص عمل في مجالات الزراعة وتربية المواشي.

يذكر أن مؤسسة التعليم فوق الجميع تلتزم بضمان الحق في التعليم للأطفال والتوظيف للشباب في المناطق الأكثر هشاشة في العالم، لكن في السودان أثبتت التجربة أن التعليم لا يقتصر على الفصول الدراسية، بل يتحوّل إلى وسيلة للبقاء وإعادة الإعمار وبناء السلام.

ومن خلال شراكتها مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبدعم من صندوق قطر للتنمية، تمكنت المؤسسة من الربط بين التعليم والتمكين الاقتصادي والاجتماعي، مؤكدة أن التعليم ليس ترفا، بل هو استثمار طويل الأمد في الاستقرار والتنمية والسلام.

وبحسب المؤسسة، فإنها تهدف إلى بناء حركة عالمية للتنمية الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية عبر توفير التعليم الجيد والشامل لجميع الفئات، مع تركيز خاص على المجتمعات المتأثرة بالفقر والنزاعات والكوارث. وتضع المؤسسة على عاتقها تمكين الأطفال والشباب والنساء من خلال التعليم ليصبحوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم بصرف النظر عن خلفياتهم وظروفهم.

كما أن رؤيتها تنطلق من الإيمان بأن لكل فرد حقا أصيلا في الحصول على تعليم جيد ومتساوٍ يفتح له أبواب الفرص المستقبلية، وتتجسد رسالة المؤسسة في تحويل حياة الأفراد والمجتمعات عبر دعم التعليم مدى الحياة الذي يؤدي إلى تمكين الفئات الأكثر ضعفا وتهميشا وإتاحة فرص العمل الكريم لهم.

شاركها.