يعُد البيت الأبيض ومؤيدوه الرسوم الجمركية التي دخلت حيز التنفيذ أمس نصراً، في دليل على خطأ تقدير منتقدي الإدارة الأميركية. انتزعت الولايات المتحدة ما رغبته من تنازلات، وأظهرت نفوذها، فقد خضع شركاؤها التجاريون في النهاية، بعد أن لوحوا بالرد.
من منظور سياسي ضيق، بالطبع يبدو هذا نصراً باهراً، لكن الرسوم الجمركية الجديدة، ناهيك عن التعريفات الإضافية التي تهدد الإدارة الأميركية بفرضها على أشباه الموصلات والأدوية، تنطوي على مخاطر في الأجل القصير، وتضمن تكبد تكاليف على المدى الطويل. لذا، فإن الاحتفال سابق لأوانه في أحسن الأحوال.
حتى الآونة الأخيرة، قادت الولايات المتحدة نظاماً تجارياً معتمداً على القواعد قائماً على المصالح المتبادلة، أما في الوقت الراهن، تعزم علناً على تطويع نظام “القوة تفرض الحق الصفري” لمصلحتها. أمل الاتحاد الأوروبي، واليابان، وغيرهما من الدول أن التهديدات باتخاذ إجراءات مضادة ستدفع الإدارة الأميركية إلى العودة إلى الاتفاقات القديمة، غير أن الاعتماد على الحماية الأمنية الأميركية، ورغبة الإدارة الواضحة في منعها، أجبر هذه الدول على الإذعان.
الأسواق تستمر في تجاهل الرسوم
على نحو متوقع، لم يقدم البيت الأبيض إلى حلفاء الولايات المتحدة أي غطاء سياسي لتراجعهم عن مواقفهم، بل على العكس تماماً، احتفل بهزيمتهم. وكان جلياً من فاز ومن هُزم.
السؤال هنا متى وكيف ستظهر كُلفة هذا النصر السياسي الضحل. فلا يزال احتمال حدوث انعكاس اقتصادي مبكر ومفاجئ قائماً، ويعتمد ذلك على ما إذا كانت الأسواق ستظل غير مبالية بما يحدث، كما كانت حتى الآن.
يرى المستثمرون “وهم على حق”، نتيجة السياسة التجارية أقل ضرراً مما كان يمكن أن تكون عليه، فرغم أن الرسوم الجمركية أعلى كثيراً من المعتاد في الولايات المتحدة، لم تصل بعد إلى ارتفاع يكفي لفرض حظر فعلي على الواردات، أو التسبب في ضرر جسيم فوري. كما ستسهم إيرادات الرسوم بقدرٍ ما (ليس كبيراً، لكن بدرجة ما) في تمويل الإنفاق الحكومي. ويُرجح أن يؤدي حماس الإدارة لتخفيف القيود التنظيمية، إلى جانب مواد من قانون الضرائب والإنفاق الذي أُقر في الآونة الأخيرة (بالأخص خفض ضرائب الشركات، وخصم تكاليف الاستثمار في نفس عام إنفاقها)، إلى دعم النمو الاقتصادي.
تبعات مرتقبة للرسوم
مع ذلك، أدت الرسوم الجمركية الجديدة بالفعل إلى ظهور بوادر الركود التضخمي، وهو مزيج ضار يجمع بين ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي إلى درجة يعجز بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عن علاجها. ورغم المواد الجيدة من “القانون الجميل الكبير”، تخلى عن أي مظهر للانضباط المالي. وفكرة أن الرسوم وفرت وضوحاً بشأن السياسة المستقبلية تبدو وهماً، فالمؤكد أن هناك تهديدات جديدة ستُستخدم رداً على الشكاوى، حقيقية كانت أو مُتخيلة.
في الوقت نفسه، لا يزال ولع الإدارة الأميركية باستخدام الإرباك كأداة سياسية واضحاً، فتواصل تصعيد هجومها على استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، وقرار إقالة رئيسة مكتب إحصاءات العمل بعد صدور بيانات وظائف مخيبة الأسبوع الماضي كان واضحاً أنه غير مُبرر، لدرجة دفعت عضواً أو اثنين من الجمهوريين في الكونغرس الأميركي إلى إبداء تحفظات.
لكن المعنويات في الأسواق المالية قد تنقلب في لحظة ما تحت هذا الضغط المستمر، وإذا حدث ذلك فستتوالى التداعيات.
دون التطرق إلى ما سيؤدي إليه كل ذلك في المدى الطويل، فإن ارتفاع الرسوم الجمركية بشكل كبير -حتى إن لم يكن مدمراً- سيرفع الأسعار، ويُضعف المنافسة، ويحُد من تحسن مستويات المعيشة، لا سيما في الولايات المتحدة. وجدير بالذكر أن اختيار عدم الرد، وإن كان محرجاً، جعل اليابان والاتحاد الأوروبي أكثر انفتاحاً على التجارة، ما يضمن أن الولايات المتحدة ستكون الخاسر الأكبر في المدى البعيد.
شرخ في العلاقات مع الولايات المتحدة
الأسوأ من كل ذلك، أن الترهيب الأميركي سيسبب ضرراً دائماً لا يمكن إصلاحه لحلفاء أميركا. فاعتباراً من الآن، ستقلل الحكومات المُهانة وناخبوها الغاضبون من وزن الوعود الأميركية، ولن تنظر إلى أولويات الولايات المتحدة الجيوسياسية بعين الرضا. وستقلص هذه الدول اعتمادها على واشنطن تدريجياً، وتوطد علاقاتها الاقتصادية، والدبلوماسية، والأمنية الأخرى بدلاً من ذلك.
حتى لو أتت المناورة قصيرة الأجل للإدارة الأميركية بثمارها على الصعيد السياسي، فستظهر حقيقة هذا النصر المزعوم في النهاية، أنه مجرد خطأ باهظ التكلفة سببته الولايات المتحدة لنفسها بالكامل.