رأت مجلة بولتيكو الأوروبية أنه في الوقت الذي تستعد فيه أوروبا لمواجهة التحولات الاقتصادية الكبرى التي يشهدها العالم، تتأرجح سياساتها بين الماضي والمستقبل في محاولة للحاق بنموذج اقتصادي أمريكي جديد. 

وأشارت المجلة في تقرير لها أنه لم يعد الخوف الأوروبي منصبًا على سياسات “بايدينوميكس” ( السياسة الاقتصادية لإدارة جو بايدن) المدعومة من الدولة؛ بل بدأ يظهر نموذج أكثر تطرفًا يقترب من مفهوم “الرأسمالية الوطنية”، الذي يشهد تراجعًا كبيرًا للدور الحكومي لصالح الأسواق الحرة.

وتتساءل المجلة هل تستطيع أوروبا التأقلم مع هذه التغيرات الجذرية، أم أنها ستظل تسير على نهج قديم لم يعد له وجود في المشهد العالمي الجديد؟
فعلى مدى عقود، كانت أوروبا تتبنى فكرة أن ازدهار الولايات المتحدة كان نتيجة للأسواق الحرة وروح ريادة الأعمال التي تتميز بها. لكن مع مرور الزمن، بدأ الاقتصاديون، مثل مارينا ماتزوكاتو، في التشكيك في هذه الأسطورة، مشيرين إلى أن العديد من الابتكارات التي ميزت العصر الحديث كانت مدعومة من استثمارات حكومية. ومن خلال كتابها “الدولة الريادية”، سلطت الضوء على دور الحكومات في دعم التكنولوجيا المتطورة مثل الإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) والهاتف الذكي.

إلا أن التحول الجذري جاء مع وصول “بايدينوميكس”، حيث بدا أن أمريكا قد تخلت عن نموذج السوق الحر، متجهة نحو سياسات أكثر تدخلًا من قبل الدولة. فلقد دعم الرئيس الأمريكي جو بايدن لصناعات مستدامة، مثل السيارات الكهربائية، من خلال قانون الحد من التضخم، الذي كان بمثابة رسالة قوية لأوروبا بأن الولايات المتحدة تعيد تشكيل قواعد اللعبة الاقتصادية.

وهذا التحول في السياسة الاقتصادية الأمريكية ترك أوروبا في حالة من الحيرة، حيث بدأت دول الاتحاد الأوروبي في محاولة محاكاة السياسات الصناعية المدعومة من الدولة التي تتبعها أمريكا، عبر دعم الشركات المحلية وتسريع الموافقات على الإعانات. لكن هذا التحرك لم يكن سوى رد فعل على شيء لم تفهمه أوروبا بالكامل. ففي الوقت الذي كانت أوروبا تركز فيه على دعم الشركات الأوروبية، كان النموذج الأمريكي يشهد تحولًا جذريًا نحو “الرأسمالية الوطنية”، وهو توجه يرفض التدخل الحكومي ويعتمد بشكل كبير على قوى السوق الحرة لإعادة تشكيل الاقتصاد.

ومن خلال هذه الرؤية الجديدة، يعمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إعادة صياغة السياسة الاقتصادية الأمريكية، مستندًا إلى تحرير السوق بشكل أكثر راديكالية. وهذا يشمل إعادة التفكير في الدور الذي تلعبه الحكومة في دعم الصناعات الوطنية، مثل إلغاء الإعانات للطاقة الخضراء والسيارات الكهربائية، وهو ما من شأنه أن يغير تمامًا موازين القوى بين القطاعات الاقتصادية في العالم. ويرتكز هذا التوجه على تقليل الدعم الحكومي لمصلحة الأسواق، مع التركيز على خلق ساحة منافسة حقيقية حيث تحدد قوى السوق النتائج بدلاً من تدخلات الدولة.

ولكن، بينما تواصل أوروبا الاعتماد على الأدوات الحكومية لمحاكاة النموذج الصناعي الأمريكي القديم، يبدو أنها تفتقر إلى رؤية التغيرات العميقة التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي. وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتبنى استراتيجيات تقليدية مثل فرض قوانين مكافحة الاحتكار أو دعم الشركات المحلية، كانت أمريكا تتبنى نهجًا أكثر حرية ومرونة، يشمل تقليص دور الحكومة في العديد من الصناعات، بما في ذلك قطاع الدفاع.

وتتجه الولايات المتحدة نحو نظام “رأسمالية وطنية” جديد يسعى للحد من التدخل الحكومي، حيث تسعى إلى إزالة السياسات التقليدية مثل الدعم الحكومي للبنوك والخصخصة وزيادة الاعتماد على الأسواق الحرة. وكل هذه التحولات تطرح تساؤلات كبيرة حول قدرة أوروبا على التكيف مع هذا الواقع الجديد، خاصة مع استمرارها في محاربة المعارك الاقتصادية التي كانت ذات يوم سائدة، دون أن تدرك أن الأرضية الاقتصادية قد تغيرت تمامًا.

وتبقى الأسئلة، هل ستتمكن أوروبا من مواكبة التحولات الاقتصادية الجذرية في الولايات المتحدة؟ أم أنها ستظل عالقة في ماضٍ قديم لن يكون له مكان في المستقبل؟

شاركها.