تواجه البلدة القديمة في مدينة الخليل بالضفة الغربية واحدة من أعتى موجات التهويد، إذ تسعى إسرائيل إلى تغيير ملامحها وطمس هويتها الفلسطينية عبر القوة العسكرية والقوانين الملتبسة والروايات التاريخية المفبركة.

ومنذ توقيع “اتفاقية الخليل” عام 1997، أحكمت إسرائيل قبضتها على المنطقة المصنفة  “إتش 2” (H2)، لتغدو البلدة القديمة ساحة مفتوحة أمام المستوطنين الذين ينتشرون في عشرات البؤر داخل المدينة ومحيطها.

اقرأ أيضا

list of 2 itemsend of list

في هذا التقرير، تتتبع “الجزيرة تحقق” الذرائع التي يسوقها الاحتلال للسيطرة على مبنى فلسطيني أثري في قلب البلدة القديمة، وكيف جرى تهويده استنادا إلى رواية تاريخية مزيفة، في ظل دعم حكومي وقانوني غير مسبوق تستغله إسرائيل لتوسيع قبضتها على المناطق الفلسطينية، ونهب ممتلكاتها وتحويلها إلى أسماء يهودية.

استيلاء علني

في الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري، نفذ عشرات المستوطنين اقتحاما لمبنى فلسطيني في قلب البلدة القديمة بمدينة الخليل، حيث رفعوا الأعلام الإسرائيلية على واجهته، وعلقوا لافتة بالعبرية تحمل اسم “بيت فاليرو”.

وقد استند المستوطنون في هذه الخطوة إلى رواية تاريخية تزعم أن المبنى يعود إلى ملكية الثري اليهودي حاييم أهارون فاليرو، صاحب بنك فاليرو الشهير في القدس.

الاقتحام لم يقتصر على رفع الشعارات، بل سرعان ما تحول إلى مشهد احتفالي، إذ جلب المستوطنون معهم أسرّة وكراس ومواد أساسية للإقامة داخل المبنى، ورددوا الأغاني وأدوا رقصات جماعية، في استعراض علني اعتبروه “إنجازا تاريخيا” يعيد لهم ما وصفوه بـ”الحق المسلوب”.

 

وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن عددا من المستوطنين المنتمين إلى المدرسة الدينية “يشيفات شفي حبرون”، المقابلة للمبنى المستولى عليه، هم من قادوا عملية الاقتحام وأقاموا فيه بؤرة استيطانية جديدة.

ويقع المبنى في شارع الشلالة، وهو محور رئيسي يكاد يكون المنفذ الوحيد المتبقي للفلسطينيين نحو البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي، بعد أن أغلق جيش الاحتلال الشارع الموازي، شارع الشهداء، بشكل كامل أمام حركة الفلسطينيين منذ سنوات.

هذا الموقع الحساس يجعل الاستيلاء على المبنى خطوة إستراتيجية تهدف إلى تضييق الخناق على السكان وتعميق السيطرة الإسرائيلية على قلب الخليل.

وفي السياق ذاته، أدانت بلدية الخليل بشدة ما وصفته بـ”الجريمة الممنهجة”، إثر استيلاء مجموعات من المستوطنين -تحت حماية كاملة من قوات الاحتلال- على المنزل المحاذي لمبنى البلدية القديم في قلب البلدة التاريخية، وإقامة حفل استفزازي في ساحته.

واعتبرت البلدية أن ما جرى جزء من سياسة مدروسة لتهويد البلدة القديمة وفرض واقع جديد بالقوة، عبر الاعتداء على أملاك المواطنين وإغلاق الشوارع الحيوية مثل منطقتي الزاهدة والشلالة، مشيرة إلى أن هذه الممارسات تمثل انتهاكا صارخا للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية.

ادعاء تاريخي

وبحسب الرواية الإسرائيلية، فإن المستوطنين عادوا بعد 96 عاما إلى منزل “حاييم أهارون فاليرو” في قلب الخليل، المنزل الذي يزعمون أن اليهود طُردوا منه عقب أحداث عام 1929، حيث قُتل -وفق وصفهم- 67 يهوديا آنذاك.

ويستند الاحتلال في دعواه إلى أن الأرض التي أقيم عليها المبنى تعود ملكيتها لفاليرو، ما يعني -بحسب الرواية- أن سطح المبنى وما بني فوقه ملكية يهودية تستوجب السيطرة عليها.

لكن مراجعة شخصية فاليرو تكشف ثغرات في السردية، فقد نشرت صحيفة هآرتس أن يعقوب فاليرو افتتح عام 1848 أول بنك في القدس قرب باب يافا، ثم تولى ابنه حاييم منصب المدير العام بعد وفاة والده، واكتسب مكانة سياسية واجتماعية رفيعة.

وتشير المصادر إلى أن نشاط فاليرو ارتبط بشكل رئيسي بشراء وبيع العقارات في القدس وشارع يافا تحديدا، ولم يرد أي ذكر لامتلاكه عقارات أو منازل في مدينة الخليل.

تزييف وتناقض

وللتحقق من الأسس التي تستند إليها الرواية الإسرائيلية، تواصلت “الجزيرة تحقق” مع رئيس لجنة البلدة القديمة في الخليل بدر الداعور، الذي أكد أن المنزل المستولى عليه يعود لعائلة ناصر الدين، التي امتلكته منذ ثلاثينيات القرن الماضي حين كان ناصر الدين رئيسا لبلدية الخليل.

وأوضح أن هناك وثائق رسمية تعود إلى عهد الانتداب البريطاني تثبت ملكية العائلة للمبنى بشكل كامل، نافيا وجود أي شبهة تسريب أو بيع، مشيرا إلى أن الاحتلال يلجأ إلى قانون “أملاك الغائبين” للسيطرة على العقار.

من جانبه، أوضح الباحث في شؤون مدينة الخليل أحمد حرباوي أن الطابق الذي استولى عليه المستوطنون بُني بعد الانتفاضة الأولى فوق أساس لدكاكين عثمانية قديمة كانت مملوكة للحكومة العثمانية وتستخدم كمقر لصناعة الخبز.

وأضاف أن الاحتلال يحاول توظيف ثغرة قانونية بالقول إن الأرض التي بُنيت عليها هذه الدكاكين تعود لفاليرو، وبالتالي فإن السطح وما أقيم فوقه ملكية يهودية، لافتا إلى أن ما يسمى بـ”حجة الملكية” التي قدمها الاحتلال للمحكمة لم يُسمح بالاطلاع على تفاصيلها أو تاريخها للتحقق من صحتها.

وحول التناقضات التاريخية، يبيّن حرباوي أن الادعاء بملكية فاليرو للمبنى غير منطقي، إذ إن نشاطه العقاري توقف عام 1915 مع إغلاق بنكه، وتوفي عام 1923، أي قبل أحداث 1929 ب6 سنوات، كما أن الخرائط من تلك الفترة لا تظهر أي بناء فوق الدكاكين العثمانية، فيما لم تذكر الدراسات الإسرائيلية المتخصصة في ملكيات اليهود بالخليل قبل عام 1936 أي صلة للمبنى بعائلة فاليرو.

أما بشأن أحداث 1929، فيوضح حرباوي أن ما تصفه إسرائيل بـ”مجزرة اليهود” لم يكن سوى ثورة أهلية ضد النفوذ الصهيوني في الخليل، حيث إن معظم القتلى -وعددهم 65- كانوا مهاجرين من بولندا وأميركا يدرسون في مدرسة دينية افتتحتها الحركة الصهيونية عام 1923، وكانوا جزءا من التنظيم العسكري للوكالة اليهودية.

ويرى حرباوي أن تلك الأحداث شكلت محطة مفصلية أوقفت التوسع الصهيوني المبكر في المدينة، بينما تحاول حكومة الاحتلال اليوم إحياء سردية قديمة لتبرير مشروع تهويدي جديد في قلب الخليل.

 

وتتبعت الجزيرة تحقق عددا من المصادر التاريخية الإسرائيلية لإثبات زيف هذه الرواية، حيث نشر المؤرخ الإسرائيلي أيال ديفدسون تقريرا موسعا أوضح فيه أن حاييم أهارون فاليرو بنى منزله في القدس داخل الأسوار، شمال البلدة القديمة قرب باب الساهرة، وأن العائلة هجرت البيت عام 1929 إثر أحداث الاضطرابات التي شهدتها المدينة، وانتقلت للإقامة في شارع يافا بالقدس.

وأشار التقرير إلى أن نشاط فاليرو ارتبط بشراء وبيع أراضٍ ومنازل في القدس وضواحيها، بما في ذلك قطع الأراضي التي أقيم عليها لاحقا سوق “محنيه يهودا” والجزء الشمالي من شارع الملك جورج، مؤكدا أن جميع أملاكه بقيت محصورة في القدس وضواحيها فقط.

هذه المعطيات تتناقض تماما مع السردية الجديدة التي تزعم امتلاكه عقارا في الخليل وطرده منه عام 1929، بل إن صحيفة هآرتس نفسها ذكرت أن فاليرو توفي عام 1923، أي قبل 6 سنوات من تلك الأحداث، ما يجعل الادعاء الإسرائيلي بشأن “بيت فاليرو” في الخليل رواية غير منطقية تفتقر إلى أي أساس تاريخي.

دعم حكومي

لم تقف الرواية الإسرائيلية عند حدود مزاعم تاريخية، بل حظيت بدعم حكومي مباشر وتأييد سياسي واسع، فقد سارع وزراء ومسؤولون إلى زيارة المبنى المستولى عليه والاحتفال بما وصفوه بـ”استعادة الحق وتصحيح المظالم”.

وأكدت حركة “سلام الآن” الإسرائيلية أن إقامة المستوطنة جاءت بمبادرة حكومية، إذ خصص المسؤول عن “الأملاك الحكومية” المبنى للمستوطنين، بينما وفّر الجيش ممرا خاصا لتمكينهم من الدخول إليه.

في حين اعتبر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الاستيلاء “تصحيحا تاريخيا بعد 96 عاما”، قائلا بعد زيارته المبنى “حظينا بإعادة المسلوب إلى أصحابه.. نواصل البناء والتطوير والتنظيم وإعادة الحقوق”، كما شكر المدرسة الدينية “يشيفات شفي حبرون” على دورها في هذه الخطوة.

من جهته، وصف الحاخام حننال أتروج -رئيس المدرسة الدينية- الحدث بأنه “أكثر من مجرد قضية عقارية”، بل “معنى عميق يثير رائحة التوراة ويعيد للأذهان إرث الآباء”، أما أيال غالمون، رئيس مجلس محلي الخليل، فقال إن الاستيلاء “أعاد الأبناء إلى حدودهم” وأحيا ما وصفه بـ”ميراث الآباء”.

 

وبجانب الغطاء السياسي والديني، توظف إسرائيل ثغرات قانونية لترسيخ سيطرتها، أبرزها “قانون أملاك الغائبين” الذي أتاح لها الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948.

وبموجب هذا القانون، تُعتبر ممتلكات كل من غادر فلسطين بعد نوفمبر/تشرين الثاني 1947 “أملاكا غائبة”، لتنتقل إلى إدارة الاحتلال وتُصادر فعليا، بما في ذلك من أراض وبيوت وحسابات بنكية وأوقاف إسلامية.

هدف استراتيجي

يقع المبنى المستولى عليه في “ساحة البلدية” عند مدخل البلدة القديمة، في موقع بالغ الحساسية بقلب الخليل التاريخية، مقابل مستوطنة “بيت رومانو” التي أُقيمت أواخر سبعينيات القرن الماضي، هذا الموقع يجعله أكثر من مجرد عقار، فهو نقطة تحكم رئيسية يمكن عبرها إحكام السيطرة على حركة الفلسطينيين.

وتوضح حركة “السلام الآن” أن الهدف من إقامة المستوطنة الجديدة في قلب قصبة الخليل هو تعزيز الطوق الاستيطاني وانتزاع مساحات إضافية من الفلسطينيين، تماما كما حدث في مناطق أخرى بالمدينة.

وترى الحركة أن الخليل تمثل “أبشع نموذج للأبارتهايد” في الضفة الغربية، حيث يتجلى نظام الفصل العنصري بأوضح صوره.

من جانبه، يشير الباحث أحمد الحرباوي إلى أن إسرائيل لا تحتاج إلى ذريعة تاريخية حقيقية، فـ”رواية فاليرو مجرد غطاء دعائي”، بينما الهدف الحقيقي هو اختيار المواقع الأكثر إستراتيجية، مثل هذا المبنى عند مدخل البلدة، للسيطرة عليها وتحويلها إلى حواجز ونقاط إغلاق تهدف إلى تهجير السكان تدريجيا، كما حدث في شارع الشهداء وتل الرميدة.

وفي السياق ذاته، حذرت نائب رئيس بلدية الخليل أسماء الشرباتي من الأبعاد الخطيرة لوجود مستوطنة جديدة عند المدخل الرئيسي للبلدة القديمة، مؤكدة أن إطلاق اسم “فاليرو” على المبنى يحمل دلالات رمزية تسعى إلى ربطه بفترة ما قبل قيام دولة الاحتلال، بهدف صناعة غطاء تاريخي للاستيطان وتفتيت النسيج العمراني الفلسطيني وربط أجزاء المدينة بجزر استيطانية معزولة.

 

شاركها.