لاشك أن وجود ساعة تتحسر عليها يوم القيامة فيما يغفل عنها الكثير منا، تعد من الأمور الجلل التي تجعل خسارتنا عظيمة مقرونة بهلاك محقق، لأن الاستهانة بمثل ساعة تتحسر عليها يوم القيامة لهي الخيبة الكبيرة، ولا يمكن التغاضي وصرف أنظارنا عن ساعة تتحسر عليها يوم القيامة ببساطة ، ففيها الكثير من الغموض والفضول ، كما أن معرفة ساعة تتحسر عليها يوم القيامة تسترعي كذلك الانتباه والاغتنام للفوز بها تجنبًا لحسرتها.

ساعة تتحسر عليها يوم القيامة

قال الدكتور علي جمعة ، مفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إنه فيما ورد عن السلف الصالح، أن هناك ساعة تتحسر عليها يوم القيامة ، أشد الحسرة.

وأوضح «جمعة» عن ساعة تتحسر عليها يوم القيامة ، أنه قال أبو عمرو الأوزاعي رحمه الله : ليس ساعةٌ من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومًا وساعةً فساعةً. ولا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسهُ عليها حسرات، فكيف إذا مرَّت به ساعة مع ساعة ويومٌ إلى يومٍ.

وأضاف أنه مع كثرة الانشغال بالدنيا ومشكلات الحياة، ينشغل الكثير منا عن الذكر، فيجب علينا أن نستغل وقتنا الفارغ في ذكر الله عز وجل، منوهًا بأن أهل الجنة بعدما يرون نعيم الجنة وفضل ذكرهم لله تعالى، لا يتحسرون على شيء فاتهم من أمور الدنيا، إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله جل وعلا فيها.

وأشار إلى أنه كان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول كما أورد صاحب «الإحياء»: مَنْ ذاق مِنْ خالص محبة الله تعالى، شغله ذلك عن طلب الدنيا، وأوحشه عن جميع البشر. وهذه هى درجة الأنس. هو تناول المحبة، محبة الله، فدخلت، فتخللت في جسمه، فحصل له أنس بالله، وهذه لذة كبيرة جدا.

وتابع: ولذلك كان السلف يقولون: «من عرف ربه أحبه ، ومن عرف الدنيا زهد فيها». فعندما تعرف إن الدنيا إلى فناء، وإن الدنيا مليئة مشاغل، وشواغل، وكدورات، ومصائب، وتعب، وجهد، تزهد فيها، لكن عندما تعرف ربك بأنه هو الباقي، الكريم، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط. تحبه.

ونبه إلى أن الذي يعرف حقيقة الإله، وأنه متصف بهذه الصفات العلى يحبه، ويقول هرم بن حيان: « المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه ،وإذا أحبه أقبل إليه ،وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه ؛ لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ،ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة ،وهي تحسره في الدنيا ،وتروحه في الآخرة ».

واستطرد: إذن الإنسان ينظر إلى الحقيقة فيعرف الدنيا، ويعمرها؛ لأن الله أمره بذلك، يزكي النفس وهكذا، وينظر إلى الآخرة، ويرجو كرم الله فيها، وستره وغفرانه .

حديث عن ساعة يتحسر عليها أهل الجنة

ورد حديث رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ يتحسر أهل الْجنَّة إِلَّا على سَاعَة مرت بهم لم يذكرُوا الله تَعَالَى فِيهَا .

وقال المنذري رحمه الله في الترغيب والترهيب (2312): “رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن شَيْخه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الصُّورِي، وَلَا يحضرني فِيهِ جرح وَلَا عَدَالَة، وَبَقِيَّة إِسْنَاده ثِقَات معروفون وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بأسانيد أَحدهَا جيد” انتهى، والحديث صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة”، ثم تراجع عن ذلك وضعفه في “السلسلة الضعيفة” برقم (4986).

وجاء أنه على فرض صحة هذا الحديث: فليس المراد منه أن أهل الجنة يصيبهم شيء من الحسرات، بعدما صاروا إليها ، وسكنوها ، فإن الله تعالى يذهب ذلك كله عن أهل الجنة ، فلا حزن فيها ، ولا نصب ، ولا وصب ، وإنما المراد بـ”أهل الجنة” يعني: الذين يصيرون إليها ، وإنما تصيبهم هذه الحسرة ، إن ثبت ذلك : وهم في موقف العرض والحساب، وأما بعد أن يسكنوا الجنة ، فيزول عنهم ذلك كله .

وقال المناوي رحمه الله : ” (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء) ، مما فاتهم في الدنيا ، (إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها) ؛ أي : احتسابا ، وتقربا إليه ، وذلك لأنهم لما عرضت عليهم أيام الدنيا ، وماذا خرج لهم من ذكر الله تعالى ، ثم نظروا إلى الساعة الأخرى التي حُرموا فيه الذكر ، مما تركوه من ذكره ، فأخذتهم الحسرات ، لكن هذه الحسرات إنما هي في الموقف ، لا في الجنة .

والغرض من السياق أن تعلم أن كل حركة ظهرت منك ، بغير ذكر الله ؛ فهي عليك ، لا لك ، وأن أدوم الناس على الذكر ، أوفرهم حظا ، وأرفعهم درجة ، وأشرفهم منزلة …” انتهى من “فيض القدير” (5/390).

ويؤيد ذلك ، ما صح من الأحاديث في نحو هذا المعنى ، لكن بلفظ ( يوم القيامة ) ، وهو ظاهر في أن ذلك إنما يكون في موقف العرض، في ذلك اليوم، ومن ذلك : ما رواه الترمذي (3380) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وصححه الألباني في “صحيح الترمذي”، والترة: الحسرة.

وما ذكر في الحديث ( إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم ) : نص في أن ذلك إنما يكون في موقف الحشر يوم القيامة ، قبل مصير الناس إلى منازلهم؛ وإلا ، فمن كان في الجنة ، لم يبق عليه شيء من الذنب، ليكون في المشيئة: أن يغفر له ؛ ثم من دخلها ، لا يخرج منها أبدا ، ولا يقال فيه : إن شاء عذبه !! وهذا واضح جدا، إن شاء الله .

وروى أبو داود (4856) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ وقال الألباني: حسن صحيح.

ثانيا: لا يجتهد المؤمن في العبادة لأن غيره سيندم، أو لا يندم ، ولا يراعي غيره أصلا ، ولا حاله ، ولا مآله ، في مسيره إلى رب العالمين ؛ وإنما العبد : همه : نفسه ، وهِمَّته : رضا به .

وهو إنما يجتهد في سيره إلى رب العالمين، لأسباب أعظمها:

1-التقرب إلى الله تعالى والقيام بحق العبودية.

2-الشكر لله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، كما قال المُغِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،: ” إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ – أَوْ سَاقَاهُ – فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ” رواه البخاري (1130)، ومسلم (2819).

3-الرغبة في تحصيل الدرجات العُلا، فإن المجال مجال منافسة عظيمة، وصاحب الهمة العالية لا يرضى لنفسه النقص. قال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ العلق/19 ، وقال: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ المطففين/22- 26 ، وقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا الإسراء/79.

وروى البخاري (3256)، ومسلم (2831) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ .

قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ .

وروى أبو داود (1464)، والترمذي (2914) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا والحديث صححه الألباني في “صحيح أبي داود”.

4-الطمع في مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. وقد روى مسلم (489) عن رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ:” كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ “.

وروى مسلم (488) عن مَعْدَان بْن أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيّ، قَالَ: “لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً “، قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ لِي: مِثْلَ مَا قَالَ لِي: ثَوْبَانُ” .

وروى البخاري (5304) عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ورواه مسلم (2983) من حديث أبي هريرة، فلهذا وغيره شمر المشمرون، واجتهد المجتهدون، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

ثالثا: يكمل إيمان العبد بفعل الفرائض، والاجتهاد في تحصيل النوافل، وترك المحرمات والمكروهات، فعلى قدر نصيب العبد من ذلك ، يكون إيمانه، ويدخل في النوافل: نوافل الصلاة والصيام والحج والصدقة، والذكر وتلاوة القرآن والبر والصلة والمعروف.

شاركها.