تتوقع روسيا أن تتأثر موازنتها العامة بالعقوبات الأميركية المفروضة على أكبر شركتي نفط لديها بسبب الحرب في أوكرانيا، إلا أن المسؤولين يؤكدون ثقتهم في قدرتهم على إيجاد سبل لتخفيف أثر هذه الإجراءات.

قال مسؤول مقرب من الكرملين إن الخسائر حتمية، رغم صعوبة تقديرها حالياً، بعد أن أدرجت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب شركتي “روسنفت” (Rosneft PJSC) و”لوك أويل” (Lukoil PJSC) على القائمة السوداء. وأضاف أن روسيا ستعتمد على شبكة تجّار النفط التابعة لها وعلى أسطول ناقلات “الظل” للحد من التداعيات المالية، طالباً عدم ذكر اسمه نظراً لحساسية الموضوع.

اقرأ المزيد: واشنطن تعاقب قطاع النفط الروسي مستهدفة “روسنفت” و”لوك أويل”

أشارت مصافي النفط في الهند الخميس إلى أنها تكاد تتوقف تماماً عن الشراء، وفي حال حدث ذلك فسوف يُشكل تحدياً كبيراً لموسكو لإيجاد زبائن بدلاء، ما قد يمنح الصين قوةً تفاوضيةً كبيرة في تحديد الأسعار. لم تصدر الحكومة الهندية حتى الآن تعليقاً على العقوبات الأميركية، فيما لم ترد وزارة النفط في نيودلهي على رسالة بالبريد الإلكتروني لطلب التعليق على الأمر.

قد يهمك: كماشة الغرب تحاصر بوتين بين العقوبات والمساومات.. وأسعار النفط تقفز 5%

كيف تستعد روسيا للعقوبات الأميركية؟

أوضح مسؤول روسي آخر أن أمام موسكو شهراً للاستعداد قبل دخول القيود حيّز التنفيذ الكامل، وستستغل هذه الفترة للتكيّف مع الوضع الجديد، مشيراً إلى أنه من الممكن أن يغيّر ترمب موقفه وفقاً لمسار المفاوضات مع الكرملين.

فرضت وزارة الخزانة الأميركية العقوبات على شركتي النفط الروسيتين الأربعاء بعد اتهام موسكو بـ”غياب الجدية في السعي إلى عملية سلام تنهي الحرب في أوكرانيا”. وتمثّل هذه العقوبات أولى الإجراءات الأميركية الكبرى ضد روسيا منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير، في تحوّل واضح في النهج الأميركي وسط تزايد الإحباط من رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبول وقف لإطلاق النار تمهيداً لمحادثات السلام.

تهدف العقوبات إلى تقليص قدرة روسيا على تمويل الحرب المستمرة منذ أربعة أعوام، في ظل الضغوط المتزايدة على اقتصادها واتساع عجز الموازنة. وحتى قبل القيود الأميركية الأخيرة، كانت الحكومة الروسية تتوقع انخفاض إيرادات النفط والغاز، التي تُمثّل نحو ربع الموازنة العامة، إلى أدنى مستوياتها في أربع سنوات خلال 2025 نتيجة تراجع أسعار الخام وارتفاع قيمة الروبل.

قال كونستانتين سيمونوف، رئيس صندوق الأمن القومي للطاقة في موسكو وعضو المجلس العام لوزارة الطاقة الروسية: “من المؤكد أن لهذه العقوبات أثراً. لا يمكن القول إنها مجرد لسعات بعوضة بلا تأثير، لكنها بالتأكيد لن تقلّص حجم الإنتاج بشكل كبير”، مضيفاً أن “هناك طرقاً للتحايل على مثل هذه الإجراءات، ومن شبه المستحيل القضاء عليها بالكامل”.

اقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي يعتمد حزمة عقوبات جديدة تستهدف قطاع الطاقة الروسي

ما هي خيارات روسيا أمام العقوبات النفطية؟

في نهاية المطاف، سيعتمد حجم تأثير العقوبات على روسيا جزئياً على ما إذا كانت الولايات المتحدة تنوي فعلاً إضعاف إمدادات موسكو النفطية إلى الأسواق العالمية، وهو هدف كانت واشنطن تتجنّبه سابقاً خشية ارتفاع أسعار النفط والوقود.

عل أقل تقدير، قد تؤدي العقوبات إلى فترة تُباع فيها الشحنات الروسية بخصومات كبيرة في الأسواق الدولية، مع احتمال خسارة جزء من الإمدادات.

سوف يراقب التجار ما إذا كانت الخصومات على النفط الروسي ستتعمق، إذ إن براميل روسيا تُتداول منذ اندلاع الحرب بأسعار مخفضة بشكل كبير، خصوصاً في نقاط التصدير. ووفقاً لبيانات وكالة “أرغوس” (Argus) المتخصصة في تسعير السلع، بلغ سعر خام روسيا الرئيسي في ميناء بريمورسك المطلّ على بحر البلطيق هذا الشهر أقل بنحو 12 إلى 13 دولاراً للبرميل مقارنة بسعر خام “برنت الفعلي” (المحدد بتواريخ تسليم) العالمي.

عندما تصل البراميل إلى وجهتها النهائية، تتقلص هذه الخصومات بشكل حاد، ما يُشير إلى أن الوسطاء يحققون أرباحاً كبيرة من الفارق السعري. ومع وفرة الإمدادات العالمية وتوقع فائض ضخم في العام المقبل، قد يصبح فقدان بعض البراميل الروسية أقل وطأة هذه المرة، رغم أن تراجع الإمدادات ليس أمراً مؤكداً بعد.

تغلبت موسكو على تهديدات متعددة لتدفقاتها النفطية منذ أن أمر الرئيس فلاديمير بوتين بالغزو الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022. وعندما انسحب المشترون الأوروبيون من السوق في بداية الحرب، سارعت روسيا إلى توسيع صادراتها إلى الهند والصين، اللتين أصبحتا تمثلان لاحقاً الغالبية العظمى من مشتري النفط الروسي.

طالع أيضاً: عقوبات واشنطن على عمالقة النفط الروس تهز قطاع الطاقة الصيني

لعبة القط والفأر بين واشنطن وموسكو

قد تمهّد الخطوة الأميركية لمرحلة جديدة من “لعبة القط والفأر”؛ حيث تبيع شركتا “روسنفت” و”لوك أويل” نفطهما عبر وسطاء يقومون بدورهم ببيعه لمشترين في آسيا.

قال عدد من المصافي الهندية، التي تُعد من أبرز مشتري الشحنات الروسية البحرية حالياً، إن العقوبات الجديدة ستجعل استمرار تدفق الجزء الأكبر من هذه الإمدادات شبه مستحيل. وإذا التزمت نيودلهي بالكامل بالقيود الأميركية، فستخسر روسيا سوقاً بنحو مليون برميل يومياً، أي ما يُعادل ربع صادراتها النفطية المنقولة بحراً تقريباً.

مع ذلك، أظهرت الهند في السابق استعداداً لتجاهل القيود الغربية بعد فترة من تطبيقها، ومواصلة التعامل مع موسكو حين تخفت الرقابة الدولية. غير أنه في حال التزامها هذه المرة، فإن موقف الصين سيصبح حاسماً بالنسبة لروسيا.

تستورد بكين كميات من النفط الروسي المنقول بحراً تعادل تقريباً واردات الهند، وقد تضطر إلى زيادة مشترياتها بشكل كبير، ربما عبر تلقي مزيد من الشحنات باستخدام “أسطول الظل” من الناقلات التي تنقل النفط الروسي.

أظهرت حسابات “بلومبرغ” أن شركتي “روسنفت” و”لوك أويل” شكلتا ما يقرب من نصف صادرات الخام الروسي في النصف الأول من هذا العام، أي نحو 2.2 مليون برميل يومياً. ومع شركتي “سورغوت نفتيغاز” (Surgutneftegas) و”غازبروم نفط” (Gazprom Neft) اللتين فُرضت عليهما عقوبات في يناير من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، شكّلت الشركات الأربع مجتمعة نحو 70% من إجمالي صادرات روسيا النفطية، بما يقارب 3.1 ملايين برميل يومياً بين يناير ويونيو.

تخطط روسيا لمواصلة الإنفاق العسكري الكثيف على الحرب في أوكرانيا رغم اتساع عجز الموازنة، إذ تعتزم الحكومة زيادة الاقتراض ورفع ضريبة القيمة المضافة من 20% إلى 22% اعتباراً من العام المقبل لسد الفجوة المالية.

اقرأ أيضاً: آلة بوتين العسكرية أصبحت جزءاً من الاقتصاد الروسي

خسائر موازنة روسيا بسبب العقوبات

قال فلاديمير تشيرنوف، المُحلل في شركة “فريدوم فاينانس غلوبال” (Freedom Finance Global)، إن تراجع صادرات “لوك أويل” و”روسنفت” بنسبة 5% إلى 10%، إلى جانب اتساع الخصومات السعرية، قد يكلف الموازنة ما يصل إلى 120 مليار روبل (1.5 مليار دولار) شهرياً.

وأشار دميتري بوليفوي، مدير الاستثمار في شركة “أسترا أسيت مانجمنت” (Astra Asset Management) بموسكو، إلى أن “أحجام الصادرات قد تتراجع أثناء إعادة هيكلة مسارات النقل، ومن المرجح أن تتسع الخصومات مجدداً”، موضحاً أن الأثر قد يتقلص جزئياً إذا ارتفعت أسعار النفط العالمية وضعُف الروبل الروسي. وأضاف: “حتى الآن، لا يبدو الوضع مقلقاً للغاية بالنسبة للموازنة، لكن ما يثير القلق فعلاً هو احتمال تراجع أسعار النفط على المدى المتوسط والطويل”.

شملت عقوبات إدارة بايدن أيضاً حظر تقديم الخدمات المرتبطة بالنفط لروسيا، واستهدفت أكثر من 180 سفينة مرتبطة بـ”أسطول الظل”، في محاولة لخنق إيرادات موسكو من الطاقة.

يبدو أن هذه العقوبات فاقمت تراجع عائدات الطاقة الناتج عن انخفاض أسعار النفط العالمية وارتفاع قيمة الروبل. ووفقاً لبيانات وزارة المالية الروسية، هبطت إيرادات النفط والغاز بنسبة 21% في الأشهر التسعة الأولى من العام إلى 6.6 تريليون روبل.

مع ذلك، أظهر المسؤولون الروس تحدياً علنياً للعقوبات، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في إفادتها الأسبوعية الخميس: “بلادنا طوّرت مناعة قوية ضد القيود الغربية”، مضيفة أن “قرار وزارة الخزانة الأميركية لن يسبب أي مشكلات تُذكر”.

شاركها.