فيما كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يصعّد حربه التجارية مع الصين في مارس، باشرت بكين تواصلاً هادئاً وثابتاً مع الهند. كتب الرئيس شي جين بينغ رسالة إلى نظيره الهندي دروبادي مورمو -وهو شخصية رمزية في المقام الأول- ليتحرى عبرها أفق تحسين العلاقات، وفقاً لمسؤول هندي مُطّلع على الأمر.

أعربت الرسالة عن قلق إزاء أي صفقات أميركية من شأنها الإضرار بمصالح الصين، وسمّت مسؤولاً إقليمياً ليقود جهود بكين، على حد قول هذا الشخص، مضيفاً أن الرسالة أُرسلت إلى رئيس الوزراء ناريندرا مودي.

أضاف هذا الشخص، الذي طلب عدم كشف هويته لكونه يتطرق إلى شؤون داخلية، أن حكومة مودي لم تبدأ في بذل جهود جادة لتحسين العلاقات مع الصين إلا في يونيو. في ذلك الوقت، كانت محادثات التجارة مع الولايات المتحدة تتحول إلى خلافات، وكان المسؤولون في نيودلهي غاضبين من مزاعم ترمب بالتوسط في وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان بعد أربعة أيام من القتال في مايو.

مودي يشيد بالعلاقة مع الصين.. وبيسنت ينتقد عائلات الهند الثرية

دعونا ننتقل إلى أغسطس، وفيه يبدو أن التقارب بين الهند والصين يتسارع. بعدما تعرضت الدولتان لرسوم ترمب الجمركية، اتخذتا خطوة كبيرة الأسبوع الماضي لتجاوز الاشتباك الحدودي الذي وقع في عام 2020 وأدى لخسائر بشرية من خلال الاتفاق على مضاعفة الجهود لتسوية نزاعاتهما الحدودية، التي يعود تاريخها إلى الحقبة الاستعمارية. وفي نهاية هذا الأسبوع، سيزور مودي الصين لأول مرة منذ سبع سنوات.

إن الانفراج بين الهند والصين له آثار عميقة على الولايات المتحدة، التي كانت تقرب نيودلهي بعناية على مدى العقود القليلة الماضية خلال الإدارات المتعاقبة لتكون ثقلاً يوازن ثقل الصين المتزايد بقوة.

عقود من السعي ذهبت أدراج الرياح

قلب ترمب هذه الديناميكية رأساً على عقب عندما فرض رسوماً جمركيةً قدرها 50% على الصادرات الهندية بسبب شرائها لنفط روسيا، وهو تحول مفاجئ صدم حكومة مودي.

قال آشلي تيليس، الزميل البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، والدبلوماسي الأميركي السابق في نيودلهي متهكماً: “ترمب هو بالفعل صانع السلام العظيم، إنه يستحق أن يُنسب له كل الفضل في تحفيز التقارب الناشئ بين دلهي وبكين… لقد حقق ذلك بمفرده من خلال معاملة الهند كعدو”. لم تستجب وزارة الشؤون الخارجية الهندية ومكتب مودي ووزارة الخارجية الصينية لطلبات معلومات.

مودي يتوجه إلى اليابان بحثاً عن تعهدات استثمارية لمواجهة رسوم ترمب

في وقت مبكر من يناير من العام الماضي، كان مودي يستكشف بهدوء طرقاً لنزع فتيل التوترات مع الصين. وفي مواجهة الانتخابات في ذلك الوقت، جادل مسؤولو مودي بأن تحسين العلاقات مع بكين من شأنه أن يفيد الاقتصاد المتذبذب مع تزايد المخاوف بشأن تكلفة إبقاء القوات متمركزة على طول الحدود النائية غير المحددة التي يبلغ طولها 3488 كيلومتراً، وفقاً لما ذكره أشخاص مطلعون على تفكير إدارته.

التنين والفيل يرقصان

منذ منتصف عام 2023، ضيق الجانبان خلافاتهما بشأن سحب القوات على طول الحدود، حسبما قال الأشخاص، على الرغم من فشل الاتفاق بسبب قضايا بسيطة. تأجل اجتماع مقترح بين شي ومودي على هامش اجتماع البريكس في جوهانسبرغ عام 2023 لاحقاً، وبعد وقت قصير من رسالة شي إلى رئيس الهند في مارس، نشرت بكين بياناً من الزعيم الصيني يحتفي بالعلاقة، ووصفها بأنها ”رقصة تانغو التنين والفيل”.

سرعان ما استخدم كبار مسؤوليه مثل نائب الرئيس هان تشنغ نفس العبارة لوصف العلاقات الأكثر دفئاً بين البلدين. قال أحد الأشخاص المطلعين إن مستشار الأمن القومي أجيت دوفال يقود تفاعل بلاده بهذا الشأن لأنه واحد من قلة بين المسؤولين الهنود الذين لديهم قنوات مباشرة وموثوقة مع القيادة العليا في الصين. يشغل دوفال منصب الممثل الخاص للهند في محادثات الحدود، وقد سافر إلى الصين في كل من ديسمبر 2024 ويونيو 2025.

قسوة الحليف ترمب تقرب الهند من الجارة اللدودة الصين

في يوليو، التقى وزير الشؤون الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار بنظيره الصيني وانغ يي في بكين، وهي أول زيارة من نوعها منذ خمس سنوات. وقد حثّ الدبلوماسي الهندي الصين على تجنب “الإجراءات التجارية التقييدية وحواجز الطرق”- في إشارة غير مباشرة إلى القيود الأخيرة التي فرضتها بكين على المعادن النادرة والتي عطلت سلاسل التوريد. وقال مسؤولون في نيودلهي في ذلك الوقت إن الصين طمأنت الهند حيال إمدادات الأسمدة والمعادن النادرة خلال الاجتماع.

في الأسابيع التي تلت ذلك، كانت هناك سلسلة خطوات تدريجية لتحسين العلاقات. كما يزمع البلدان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين في وقت مبكر من الشهر المقبل. وقد خففت بكين القيود المفروضة على شحنات اليوريا إلى الهند. وسمحت حكومة مودي بتأشيرات سياحية للمواطنين الصينيين بعد سنوات من القيود.

كما تستكشف مجموعة أداني أيضاً شراكة مع شركة ”بي واي دي“ (BYD) الصينية العملاقة للسيارات الكهربائية والتي من شأنها أن تسمح للتكتل الذي يسيطر عليه الملياردير غوتام أداني -الذي يُنظر إليه على أنه مقرب من مودي- بتصنيع البطاريات في الهند وتوسيع نطاق دفعها نحو الطاقة النظيفة، حسبما نقلت بلومبرغ نيوز. كما تسعى شركة ”ريلاينس إندستريز“ ومجموعة ”جيه إس دبليو“ (JSW) إلى إبرام صفقات سرية مع شركات صينية مع تحسن العلاقات الثنائية.

لا اختراقات منتظرة

في الأسبوع الماضي، رحب مودي بالتحسن في العلاقات مع الصين بعد اجتماع وانغ في نيودلهي. سيلتقي مودي وشي الإثنين أثناء حضورهما قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين، وهي مدينة قريبة من بكين.

في حين أن احتمالات التوصل إلى أي اتفاق جديد مهم داخل التجمع الإقليمي ضئيلة نظراً لأن باكستان عضو فيه أيضاً، يمكن رؤية تحركات ذات مغزى على الهامش. 

في عام 2017، في قمة قادة مجموعة العشرين في هامبورغ بألمانيا، توجه مودي إلى شي لحل المواجهة بين الجنود الهنود والصينيين في دوكلام قرب الحدود بين البلدين وبوتان بشكل مباشر.

الصين والهند تبحثان استئناف التجارة الحدودية بعد توقف 5 سنوات

أخبر مودي شي أن التوترات الحدودية ليست في مصلحة أي من البلدين، وفقاً لأشخاص مطلعين على تفاصيل الفعل النادر للدبلوماسية غير المكتوبة. وافق شي وقال الزعيمان إنهما سيطلبان من دبلوماسييهما العمل على إيجاد حل، حسبما قال الأشخاص الذين طلبوا عدم كشف هوياتهم لأن المناقشات كانت خاصة.

انتهت المواجهة المتوترة التي استمرت 74 يوماً بعد بضعة أيام. لقد جعل التبادل الصريح، وهو واحد من حوالي 20 لقاءً على مر السنين، مودي أحد محاوري شي الأكثر تكراراً بعد رئيس روسيا فلاديمير بوتين. حتى عندما كان مودي يدير ولاية غوجارات الغربية، استضافته بكين عدة مرات، بما في ذلك في قاعة الشعب الكبرى.

المنطق الاقتصادي لتحسين العلاقات صلب

يعاني الاقتصاد الصيني المتباطئ من الانكماش، مع زيادة الطاقة الإنتاجية في صناعات مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وهذا أمر يزيد الأمور سوءاً. يمكن أن تكون الهند، التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة فيهم نسبة عالية من الشباب، سوقاً جديدةً محتملة، إذ تواجه الصين حمائية متزايدة في الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى.

في غضون ذلك، يدرك المسؤولون الهنود بشكل متزايد أنهم بحاجة إلى استثمارات صينية في المصانع إذا أرادوا تلبية طموح مودي الناشئ لتعزيز التصنيع إلى نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي.

إذا ظلت الرسوم الأميركية الباهظة، فإن بلومبرغ إيكونوميكس تحسب أن حوالي 60% من صادرات الهند إلى الولايات المتحدة ستختفي، ما يؤدي إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% تقريباً على المدى المتوسط.

روسيا والهند والصين.. لماذا لن ينجح إحياء التحالف الثلاثي؟

لقد تعثرت طموحات الهند الاقتصادية بسبب القيود المفروضة من كلا جانبي الحدود. نقلت بلومبرغ نيوز أن معظم الموظفين الصينيين في مجموعة ”فوكسكون“ في مصانع ”أيفون“ في جنوب الهند أُبلغوا للعودة إلى ديارهم في وقت سابق من هذا العام، وشجع المسؤولون في بكين الوكالات التنظيمية والحكومات المحلية على الحد من نقل التقنية وصادرات المعدات إلى الهند.

قالت أنتارا غوسال سينغ، زميلة في مؤسسة ”أوبزرفر“ للأبحاث، وهي مؤسسة بحثية مقرها في نيودلهي: “إن الإمكانيات الاقتصادية هائلة إذا تمكنت الدولتان من تسوية الخلافات وبناء الثقة… تحدث قادة البلدين كثيراً عن الإمكانيات الاقتصادية لكنهم لم يتمكنوا من التغلب على مشكلات الثقة. يمثل ترمب حافزاً جيداً لكلا البلدين لإعادة النظر في خياراتهما”.

مؤكد أنه ما يزال هناك كثير من الشكوك لدى كلا الجانبين. ما تزال العلاقة الوثيقة بين الصين وباكستان تشكل عائقاً. وقالت مجموعة بحثية تابعة لوزارة الدفاع الهندية في مايو إن الصين زودت باكستان بالدفاع الجوي والدعم عبر الأقمار الصناعية خلال اشتباك مع الهند في أبريل. كما استخدمت باكستان أسلحة قدمتها الصين في القتال.

في حين أن الهند لا تعترف بتايوان، فقد زادت الاتصالات التجارية والشعبية في السنوات الأخيرة، ما أثار مخاوف في بكين. وما تزال الهند أيضاً عضواً في الرباعية- وهي مجموعة أمنية تضم الولايات المتحدة وأستراليا واليابان تهدف إلى موازنة الصين. ويُتوقع أن يحضر قادة الدول الأعضاء الأربعة قمة في الهند في وقت لاحق من هذا العام.

قضية التيبت

وهناك عائق آخر يتمثل في ما يُسمى “حكومة التيبت في المنفى” وقضايا الخلافة عند وفاة الدالاي لاما الذي بلغ من العمر 90 عاماً. وقد أكدت حكومة الصين أن إجراءات الاختيار والمرشح يجب أن يحصلا على موافقة بكين، مستشهدة بمرسوم إمبراطوري من عام 1793. مع هذه القائمة الطويلة من المخاطر المحتملة، يُرجح أن يتبع الجانبان نهجاً تدريجياً نحو تطبيع العلاقات.

قال كوي هونغ جيان، الدبلوماسي الصيني السابق الذي عمل في القنصلية الصينية في مومباي بين 2004 و2007، إنه يتوقع أن يتوخى شي الحذر ولن يلعب دوراً عاماً أهم إلا بعد أن تتحسن العلاقات بشكل أوضح، مفضلاً بدلاً من ذلك إنشاء آليات أكثر رسمية لتوجيه العلاقات الثنائية.

قال كوي: “في البداية، حاول شي تطوير علاقات شخصية مع مودي، لكن بدا أن ذلك لم ينجح… ما دامت المشكلات قائمة، فلا أعتقد أنه يرغب في إقامة علاقة أوثق”.

حالياً ما تزال خطوات تطبيع العلاقات بين نيودلهي وبكين تدريجية. قال جيريمي تشان، المحلل البارز في فريق الصين وشمال شرق آسيا في مجموعة أوراسيا، وقد عمل سابقاً كدبلوماسي في الصين واليابان: “العلاقات الصينية الهندية تسير على مسار إيجابي بلا شك، لكنهما ما تزالان تتعافيان في الغالب من الخسائر في علاقتهما… إن بلوغ مسافة أبعد من هذا بقدر ملحوظ سيكون أصعب”.

شاركها.