كشف تحقيق لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية أن مشروع آلية المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، المدعوم من الولايات المتحدة، عن طريق منظمة تُدعى “مؤسسة غزة الإنسانية”، يواجه عقبات كبيرة وشكوكا في جدواه.

وقالت الصحيفة إن المنظمات الإنسانية والجهات المانحة المحتملة وكبار الضباط الإسرائيليين شككوا في جدوى مشروع آلية المساعدات الإنسانية الجديد، وما إذا كان الهدف منه إعادة احتلال غزة.

بل إن بعض الأشخاص الذين شاركوا في التخطيط المبكر للمؤسسة بدؤوا في النأي بأنفسهم عن المشروع، مشيرين إلى مخاوف أخلاقية بشأن احتمال أن تسهّل الخطة التهجير القسري للفلسطينيين، أو تسهم في إساءة استخدام البيانات البيومترية، وحتى مقارنتها بشركة “بلاك ووتر”، وهي شركة مرتزقة أميركية تورطت في أعمال عنف ضد المدنيين في العراق.

ونقلت واشنطن بوست عن مصادر أن خطة المساعدات الجديدة لغزة في حالة ارتباك وشك، ولم ينضم إليها بعد مسؤولو إغاثة بارزون.

وحسب الصحيفة، فإن الدول العربية والأوروبية التي طرحت كممول مفترض للمشروع تراجعت عن ذلك، مما أثار تساؤلات بشأن كيفية حصول آلية المساعدات الجديدة على التمويل وإمدادات المساعدات.

تساؤلات محرجة

وفي وثائق داخلية لم يُكشف عنها سابقا، تقترح خطة الجهات الداعمة للمشروع بالتشاور مع إسرائيل، التي تحمل رسميا اسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، وهي منظمة جديدة مسجّلة في جنيف، إحداث تغيير شامل في آلية إيصال المساعدات، من خلال إنشاء مراكز إنسانية في جنوب غزة، تتولى إدارتها وتأمينها شركات خاصة، وعناصر أمنية ذات خلفيات عسكرية، يُرجَّح أن تكون من الولايات المتحدة.

وبذلك، تتجاوز هذه الخطة عمليا النظام الراسخ لتقديم المساعدات، الذي أنشأته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وحافظت عليه على مدار عقود. وفي نهاية المطاف، ووفقا للخطة، سيعيش الفلسطينيون في مجمعات سكنية محمية، قد يستوعب كل منها عشرات الآلاف من المدنيين.

لكن الوثائق أظهرت أنه منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024، توقعت الجهة المُخططة أن تواجه المؤسسة تساؤلات حرجة وقد تضر بسمعتها من الرأي العام حول أصولها الغامضة، ومؤهلاتها، ومشروعيتها الأخلاقية.

ومن المقرر إطلاق عملية تقديم المساعدات التابعة لمؤسسة الإنسانية يوم الاثنين. وبحسب المقترح، ستبدأ مؤسسة غزة الإنسانية، في المرحلة الأولية، بإنشاء 4 مواقع توزيع آمنة وقابلة للتوسيع، بحيث يُتيح كل موقع إمكانية الوصول إلى الغذاء، والمياه، والإمدادات الضرورية الأخرى، لنحو 300 ألف شخص. وبعد هذه المرحلة الأولية، يمكن توسيع نطاق العملية للوصول إلى مليوني شخص في غزة.

ولا يقدّم المقترح تفاصيل واضحة حول كيفية عمل المؤسسة ميدانيا، أو مصدر تمويل عملياتها الشاملة، وما لذلك من تبعات كبيرة على مليوني فلسطيني محاصرين داخل القطاع الذي تبلغ مساحته 140 ميلا مربعا ويواجهون خطر المجاعة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

ومنذ الثاني من مارس/آذار الماضي، لم تدخل أي مساعدات إنسانية إلى غزة، وصوّت المجلس الأمني المصغر بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الرابع من مايو/أيار على السماح باستئناف توزيع المساعدات فقط وفق نموذج يشبه مؤسسة غزة الإنسانية.

وتكافح هذه المؤسسة لاستقطاب منظمات إنسانية راسخة أو جهات مانحة رئيسية، إذ تقول الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الإنسانية إنها لا تستطيع التعاون مع نموذج ينتهك مبادئها التي تحظر التحقق من هويات المستفيدين من المساعدات، وقد لا يكون كافيا لتغذية جميع سكان غزة.

وردا على أسئلة صحيفة “واشنطن بوست”، قال متحدث باسم “مؤسسة غزة الإنسانية” إنهم حصلوا بالفعل على تمويل قدره 100 مليون دولار من جهة مانحة لم يُكشف عنها، وإنه كان “إنجازا كبيرا” أن تنتقل المؤسسة من فكرة إلى موافقة ثم إلى تقديم الطعام للجوعى.

وأضاف المتحدث أن المؤسسة لا تعتبر بناء المجمعات السكنية أو التحقق من هوية المستفيدين جزءا من خططها الحالية، مشددا على أن المؤسسة لن تشارك أبدا أو تدعم أي شكل من أشكال التهجير القسري للمدنيين.

وأشار متحدث باسم مؤسسة غزة الإنسانية إلى أن المؤسسة تضغط حاليا على إسرائيل للسماح بإنشاء مراكز إضافية وتمكينها من خدمة المدنيين في جميع أنحاء غزة. وأضاف: “لا يوجد حد لعدد المواقع التي يمكن للمؤسسة إنشاؤها، ولا أماكنها”. وأوضح: “نتوقع افتتاح 4 مواقع بحلول نهاية الشهر، ونخطط فعليا لمواقع إضافية في أنحاء غزة”.

وقد بدأ المتعهدون العاملون مع المؤسسة في بناء تلك المراكز، ووصلت عناصرها المسلحة بالفعل إلى إسرائيل. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح من سيوفر المساعدات ويوزعها فعليا.

تحضيرات طويلة الأمد

في منتصف 2024، شارك مسؤولون إسرائيليون خططهم مع مجموعة من المستشارين الأميركيين في القطاع الخاص بقيادة فيل رايلي، وهو ضابط سابق في العمليات شبه العسكرية في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه).

وبحسب 5 من المطلعين الإسرائيليين والأميركيين، تولّت مجموعة رايلي مهمة التخطيط، وتم اختيار شركته الجديدة “حلول الوصول الآمن” لتكون المقاول الفرعي الأمني واللوجيستي للمراكز. وكان تانكمان، المقيم في تل أبيب، يعمل كحلقة وصل بين الفريق الأميركي والمسؤولين الإسرائيليين. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بدأت ملامح “مؤسسة غزة الإنسانية” تتشكل.

ولم تتطرق إحدى الوثائق التي اطلعت عليها صحيفة واشنطن بوست -وهي ملخص تنفيذي أعدّ لمعهد أبحاث إسرائيلي- إلى تفاصيل المساعدات التي سيتم توزيعها، والتي كانت من المفترض أن تتكفل بها المنظمات غير الحكومية المشاركة، بل ركزت الخطة على عدد عناصر الأمن، والأسلحة، والمركبات المدرعة المطلوبة، وتصميم أنظمة الاتصال، والمخططات الأساسية لـ4 مراكز توزيع يمكن للمدنيين القدوم إليها لتسلّم المساعدات.

كما نصّت الخطة على إنشاء مركز عمليات بعيد يراقب النشاطات في غزة على مدار الساعة باستخدام الكاميرات والطائرات بدون طيار، وفي مرحلتها الأخيرة، تطوير مناطق سكنية محمية أُطلق عليها اسم “مناطق الانتقال الإنساني”، يعيش فيها سكان غزة.

وأشار المخططون إلى أهمية طمأنة السكان بأنهم سيتمكنون من العودة إلى منازلهم حين يصبح الوضع آمنا، كما أعدّوا قوائم بمؤثرين على “إنستغرام” و”إكس” من العالم العربي يجب على المؤسسة التواصل معهم كجزء من حملة إعلامية لبناء دعم شعبي للمشروع.

ولكسب الدعم الدبلوماسي، اقترحت الخطة أن تسعى المؤسسة لإقناع دول غربية مثل ألمانيا و”إقناع فرنسا” -التي تُعتبر أكثر انتقادا لإسرائيل- “بعدم التدخل السياسي في غزة وعمليات المؤسسة لمدة عام”.

إسرائيل شعرت بالارتياح عندما أصبحت إدارة ترامب هي الواجهة الرسمية لمشروع مؤسسة غزة الإنسانية (غيتي)

إدارة ترامب في الواجهة

وسعى المخططون أيضا إلى التقليل من ارتباطهم بالحكومة الإسرائيلية. فعلى الرغم من أنهم تمتعوا بـ”شراكة قوية” مع المسؤولين الإسرائيليين وحصلوا على مدخلات من الجيش والمخابرات الإسرائيلية، فإن الوثيقة أشارت إلى أن مؤسسة غزة الإنسانية يجب أن تتجنب الظهور بمظهر “تابع أو وكيل للحكومة الإسرائيلية”، لكنها في الوقت نفسه يجب أن تكون مستعدة للإجابة عن أسئلة حول كيف حصلت “منظمة غير حكومية لم يُسمع بها من قبل على موافقات فريدة من نوعها من الحكومة الإسرائيلية”.

وحذّرت الوثيقة من أن أي تصور بأن إسرائيل تتحكم بالمؤسسة قد “يثني” شركاء محتملين عن التعاون.

وفي فبراير/شباط الماضي، كانت وكالة إسرائيلية تُعرف باسم كوغات، هي التي اتصلت أولا بالمنظمات غير الحكومية لعرض فكرة إنشاء مراكز توزيع خاصة جديدة. ووصف الموظفون في الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الذين اجتمعوا مع كوغات الموقف الإسرائيلي بأنه وديّ لكنه حازم، مشيرين إلى أن النموذج الجديد قد تم اتخاذ القرار بشأنه مسبقا.

وقال مسؤول في الأمم المتحدة: “ظننا أن الأمر قابل للتفاوض، وأُبلغنا بأنه سيكون هناك مجال لسماع مخاوفنا، لكنه تبيّن في النهاية أنه: هكذا ستسير الأمور”.

ومع تصاعد المعارضة من المنظمات غير الحكومية، جادل بعض الإسرائيليين المشاركين في الخطة سرّا بأن على الولايات المتحدة، لا إسرائيل، أن تتصدر طرح مشروع مؤسسة غزة الإنسانية، وشعروا بالارتياح عندما أصبحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب هي الواجهة الرسمية له، وفقا لشخص مطّلع على عملية التخطيط. وفي العلن، قلل المسؤولون الإسرائيليون من حجم تورط إسرائيل.

فقال السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون للصحفيين إن “مراكز التوزيع ستُدار من قبل الصندوق وستقودها الولايات المتحدة”.

وفي التاسع من مايو/أيار، أعلن السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي، لوسائل الإعلام أن مشروعا جديدا، وصفه بأنه مبادرة أميركية لا تشمل إسرائيل، سيبدأ في تقديم المساعدات في غزة.

وفي الوقت ذاته، قام أرييه لايتستون، وهو مسؤول أميركي يعمل الآن مع ستيف ويتكوف المبعوث الخاص لترامب، وكان مساعدا سابقا للسفير الأميركي الأسبق في إسرائيل ديفيد فريدمان، بقيادة اجتماعات مع مسؤولي منظمات الإغاثة للإجابة عن أسئلتهم حول جدوى مشروع مؤسسة غزة الإنسانية وأبعاده الأخلاقية.

وعندما ضغط مسؤولو الأمم المتحدة على لايتستون وديفيد بورك، المدير التنفيذي للعمليات في المؤسسة، خلال اجتماع عُقد في تل أبيب بتاريخ 14 مايو/أيار، اعترف كلاهما بأنهما لا يمتلكان خطة واضحة، لكنهما كانا تحت ضغط من الرئيس ترامب لإنتاج شيء ما، بحسب ما قاله مسؤول أممي مطّلع على الاجتماع.

ونشر مسؤولون إسرائيليون وأشخاص مقربون من المؤسسة شائعات تفيد بأن منظمات إنسانية بارزة مثل المطبخ المركزي العالمي والأمم المتحدة قد انضمت إلى المشروع، رغم أن هذه المنظمات سارعت لإصدار بيانات تنفي مشاركتها.

انقسامات داخل الجيش

وتدور تساؤلات بشأن جدوى الخطة وآثارها الإستراتيجية والقانونية حتى داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

وحتى منتصف مايو/أيار، اعترف رئيس هيئة الأركان، الجنرال إيال زمير، في محادثات خاصة، بأنه لا يعرف ما هي المسؤوليات المحددة للمقاولين الأميركيين مقابل مسؤوليات الجيش، لكنه ظل ملتزما بتنفيذ الخطة التي أقرّتها القيادة السياسية الإسرائيلية. وقد شكك ضباط آخرون مشرفون على غزة في دور الأطراف الخارجية في جهود الإغاثة، وفقا لأشخاص مطلعين على الأمر.

وفي الأيام الأخيرة، اتفقت المؤسسة الأمنية والجيش الإسرائيلي على أن تتمركز القوات الإسرائيلية على بعد لا يقل عن ألف قدم (حوالي 300 متر) من مراكز التوزيع، بحسب مصدر مطلع.

واعترف مسؤول عسكري إسرائيلي سابق شارك في صياغة الخطة بوجود انقسامات عميقة داخل الجيش، وانتقد ضباطا قال إنهم “يريدون أن تفشل الخطة” لأسباب أيديولوجية، ويفضلون استمرار الوضع الراهن”، في إشارة إلى نظام التوزيع بقيادة الأمم المتحدة.

أما تمير هايمان، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والذي اطّلع على الخطة، فقال إن أيا من السيناريوهات المطروحة بموجب خطة مؤسسة غزة الإنسانية غير قابلة للتنفيذ.

وأضاف: “مطالبة الغزيين بالسفر لمسافات طويلة إلى مركز توزيع للحصول على كيس طعام يزن 40 رطلا عدة مرات في الأسبوع، ربما قد تنجح في ملعب غولف، ولكن ليس في غزة”.

كما رفض فكرة إقامة مناطق سكنية شبه دائمة، قائلا: “دعك من الجوانب الإنسانية والأخلاقية، من الناحية اللوجيستية فقط، نقل الناس إلى موقع دائم، إنها عملية ضخمة لنقل أناس سبق أن تم تهجيرهم مرة.” وختم قائلا: “لن تنجح”.

شاركها.