معادلات جديدة
وفقا للخبراء العسكريين، لم تحقق إسرائيل عمليا أيا من تلك الأهداف التي وضعتها، بل وجدت القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية نفسها في حالة من الارتباك والتخبط العسكري والسياسي -أشبه ما يكون بالحرب الدائرة في جبهتي الجنوب والشمال حاليا- على ضوء خسائر لم تكن محسوبة ومفاجآت غير منتظرة في الأداء القتالي لحزب الله وتكتيكاته، وأدت تلك الخسائر عمليا إلى إنهاء رئيس الوزراء إيهود أولمرت سياسيا.
ويخلص تقرير فينوغراد، الذي أعدته لجنة التحقيق الإسرائيلية التي تشكلت في 17 يوليو/ تموز 2006، ونشرته في 30 يناير/كانون الثاني 2008 إلى هذه النتيجة، وقد ورد فيه:
“بشكل عام، فشل جيش الدفاع الإسرائيلي، وخاصة بسبب سلوك القيادة العليا والقوات البرية، في تقديم رد عسكري فعال على التحدي الذي فرضته عليه الحرب في لبنان”.
وأكد التقرير أيضا أن “هذه الحرب شكلت إخفاقا كبيرا وخطيرا.. لقد كشفنا وجود ثغرات خطيرة على أعلى مستويات الهرمية السياسية والعسكرية”.
ويعكس التقرير الخلل البنيوي داخل إسرائيل على المستوى القيادي بشقيه السياسي والعسكري والاستخباراتي، والذي استمر أيضا -رغم التحذيرات الواردة فيه- بشكل أكثر حدة في “كارثة” يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024 وعملية “طوفان الأقصى”. حيث فاجأت حركة حماس والمقاومة الفلسطينية إسرائيل بشكل كامل.
بمعايير الأهداف التكتيكية لتلك الحرب، يرى محللون أن حزب الله حقق انتصارا عسكريا ونفسيا، وأن إسرائيل هزمت، وفوجئت تماما بالقدرات العسكرية والتنظيمية المتطورة التي يمتلكها الحزب، حيث استطاع مثلا تدمير 50 دبابة إسرائيلية خلال نحو 5 أسابيع من الحرب واستهداف بارجة حربية، وطالت صواريخه مواقع جديدة في إسرائيل.
وفي المقابل كان حجم الدمار الذي ألحقته إسرائيل بلبنان كبيرا، ومنه انبثقت عام 2008 ما عرفت بـ”عقيدة الضاحية” كإستراتيجية ردع مستوحاة من تدمير الطيران الإسرائيلي لأجزاء من ضاحية بيروت الجنوبية، حيث معقل حزب الله.
كان قائد القيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي الجنرال غادي آيزنكوت، هو من وضع تلك الإستراتيجية التي ترتكز على إحداث أكبر قدر من التدمير، حيث يقول:
“إن ما حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت سيتكرر في كل بلدة تطلق منها طلقات باتجاه إسرائيل.. سنستخدم القوة غير المتكافئة ضدهم، وسنتسبب في دمار هائل، بالنسبة إلينا هذا ليس اقتراحا بل قواعد عسكرية وخطة تمت الموافقة عليها”
عمليا، أسفرت حرب 2006 عن معادلة ردع متبادل وأفرزت حالة هدوء نسبي. ويشير محللون إلى أنها منعت اندلاع حرب شاملة جديدة، طوال نحو عقدين، واستعاضت عنها إسرائيل بعمليات اغتيال مستهدفة (زادت وتيرتها في الحرب الجارية) واشتباكات محدودة لا تخرج عن تلك المعادلة.
بدوره، اتبع حزب الله حدود الحرب المرسومة ضمنيا وفق قواعد الاشتباك التي أفرزتها حرب 2006، حفاظا على التوازنات السياسية الدقيقة في المشهد السياسي اللبناني المنقسم حول دوره وسلاحه، وخشية تحول الحرب إلى عمليات انتقام إسرائيلية واسعة ودمار هائل قد يطال بيروت ومدنا أخرى.
وفي المقابل، تخشى إسرائيل أيضا من دمار مماثل وخسائر فادحة ومفاجآت عسكرية غير محسوبة، تبعا للترسانة الكبيرة التي يمتلكها حزب الله من الصواريخ والمسيّرات وخبرات مقاتليه، الذين يصل عددهم إلى نحو 100 ألف، بينهم قوات نخبة متمرسة، وجبهة دعم وإسناد، تضم إيران و”محور المقاومة”. لكن جولة قتال أخرى كان لها أن تأتي، ولو في غير موعدها، لتصبح أطول المعارك بين الطرفين.