على مدار التاريخ المصري، كان فيضان النيل يُمثل حدثًا استثنائيًا يحمل بين طياته الأمل والخوف معًا. ففي حين كانت مياهه تغمر الأراضي وتُغرق القرى أحيانًا، إلا أنها أيضًا كانت تُعيد الحياة للتربة وتضمن استمرار الزراعة في وادي النيل. واليوم، ومع وجود السد العالي كدرع حصين، تغيّرت معادلة الفيضان من تهديد إلى فرصة يمكن استغلالها في دعم الأمن الغذائي وتحسين خصوبة الأراضي.

الجمعية الجغرافية.. الفيضان فرصة وليس خطرًا

 شدّد الدكتور محمد السيديمي، رئيس الجمعية المصرية الجغرافية، في تصريحات خاصة، على أن فيضان النيل لا يُمثل “شرًا مطلقًا”، بل يمكن أن يكون إضافة حقيقية للاقتصاد والزراعة المصرية إذا جرى التعامل معه بعقلانية. 

وأوضح أن الأراضي المعروفة بـ”طرح النهر”  وهي الأراضي التي تغمرها المياه على جانبي النيل تحتوي على طمي غني بالمعادن يعيد للتربة خصوبتها الطبيعية، مما يتيح فرصًا جديدة للتوسع الزراعي وتحقيق إنتاج وفير.

السد العالي.. حارس مصر الأول

ووصف السيديمي مشروع السد العالي بأنه “أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين”، مؤكدًا أنه شكّل منذ إنشائه في ستينيات القرن الماضي خط الدفاع الأول لمصر ضد الفيضانات والجفاف. 

فاليوم يستقبل السد كميات ضخمة من المياه القادمة من السودان وإثيوبيا دون أن يتأثر جسمه أو بنيانه، بفضل متابعة دقيقة من وزارة الموارد المائية والري.

وأشار إلى أن ارتفاع منسوب بحيرة ناصر لا يُمثل تهديدًا بقدر ما يُعبر عن نجاح المشروع في استيعاب كميات هائلة من المياه. وفي حال الزيادة الكبيرة، يتم فتح بوابات السد أو استخدام مفيض توشكى لتخفيف الضغط، وهي إجراءات روتينية تعكس عبقرية التصميم التي وُضعت لتأمين مصر في مختلف الظروف.

فيضان عبر العصور.. سر خصوبة الوادي

 يرى السيديمي أن الفيضان كان عبر التاريخ “رحمة” من الطبيعة؛ فهو يُعيد للنيل توازنه، ويجدد خصوبة أراضيه التي اعتمد عليها المصريون منذ آلاف السنين. ففي ظل الاستهلاك المكثف للأسمدة الكيماوية اليوم، تصبح عودة الطمي إلى الأراضي الزراعية هبة طبيعية تُغني التربة وتزيد إنتاجيتها.

المطر هذا العام.. بين المتوسط والزيادة

وعن حالة الأمطار هذا العام، أوضح أن النصف الأول من الموسم شهد معدلات أقل من الطبيعي، بينما ارتفعت في النصف الثاني، وهو ما انعكس على التخزين في بحيرة ناصر الذي يجري بصورة منتظمة. وأكد أن مصر ليست بحاجة حالياً لتفريغ كميات إضافية من المياه في مجرى النهر، إلا إذا استمرت الأمطار الغزيرة لفترات أطول.

أراضي طرح النهر.. ثروة طبيعية ومأزق قانوني

وتُعد أراضي طرح النهر من أغنى الترب الزراعية في مصر وأكثرها خصوبة، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل مستمر. فهي تُصنف ضمن أملاك الدولة باعتبارها جزءًا من المجرى الفيضي للنيل، وبالتالي لا يحق للمزارعين المطالبة بتعويض عند غمرها بالمياه. ومع ذلك، استمر استغلالها على نطاق واسع، خاصة مع ندرة الفيضانات الكبيرة في العقود الأخيرة. وهنا يبرز التحدي في الموازنة بين الاستفادة من خصوبتها وحماية المزارعين من مخاطر غمرها.

نحو رؤية جديدة للفيضان

 من منظور الجمعية الجغرافية، لا ينبغي النظر إلى فيضان النيل باعتباره تهديدًا يُخيف المصريين، بل فرصة طبيعية تُعيد إحياء الأراضي وتغني الزراعة. ومع وجود السد العالي كأداة حماية وتنظيم، يمكن لمصر أن تُعيد صياغة علاقتها بالفيضان، فتستفيد من خيراته وتتفادى أضراره، لتبقى مياه النيل كما كانت عبر العصور.. مصدر حياة وخصب وتجدد.

شاركها.