هناك قصة تتبادر إلى الذهن بينما يترقب العالم نفاد المهلة التي منحها الرئيس دونالد ترمب مؤخراً لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، التي خفضها من 50 يوماً إلى 10 أيام تنتهي الجمعة. تعود القصة إلى الراحل جورج شولتز، وكان قد قصها أثناء توليه منصب وزير الخارجية في الثمانينيات على رئيسه رونالد ريغان، المروّج الرئيسي لنهج “تحقيق السلام باستخدام القوة” في السياسة الخارجية.
روى شولتز أنه عندما كان في معسكر تدريب مشاة البحرية (المارينز)، أعطاه ضابط صف برتبة رقيب بندقيته، وقال له: “هذا أعز صديق لك. وتذكر شيئاً واحداً: لا تصوّب البندقية أبداً إلى أي شخص ما لم تكن مستعداً لإطلاق النار. لا تطلق تهديدات جوفاء”.
وأوضح شولتز أنه واصل تكرار الحكاية على مسامع ريغان ليوضح أنه “يجب علينا توخي الحذر الشديد فيما نقوله”. فإذا رسمت الولايات المتحدة خطاً أحمر، أو حددت مهلة أخيرة، أو ببساطة أعلنت عدم قبولها لأمر ما، فهي في الواقع تُشهر أكبر سلاح في العالم. وإذا تجاهل الخصم هذه الإشارة “ولم تفعل شيئاً، فلن يُعيرك أحد بالاً بعد ذلك”. فلا قوة بعد ذلك، ولا سلام على الأرجح.
سخاء ترمب في المهل النهائية
هناك علاقة معقدة بين ترمب والمُهل النهائية، فيوزعها بسخاء، سواء كان الأمر يتعلق بالمفاوضات حول الرسوم الجمركية، أو استمرار نشاط “تيك توك” في الولايات المتحدة، أو برنامج إيران النووي، أو- كما في الموقف الحالي- استعداد بوتين لقبول وقف إطلاق النار في أوكرانيا.
في حالة التجارة، اتسم ترمب بالقدر نفسه من السخاء في تعديل تلك المُهل النهائية (ما شكل مصدر إلهام للصورة الساخرة المنتشرة في البورصات بأن “ترمب يتراجع دوماً”). في المقابل، فيما يخص إيران، شهر ترمب سلاحه المجازي في أبريل بمهلة 60 يوماً، وعندما انقضت- وكانت المفاوضات مستمرة بين الولايات المتحدة وإيران لكن إسرائيل بدأت القصف بالفعل- ضغط الزناد بشن ضربات هائلة، لكن دقيقة، على المواقع النووية في إيران.
لكن إيران لم تكن بعد تمتلك أي أسلحة نووية، سواء كانت تعمل فعلياً على تطويرها أم لا، في حين تمتلك روسيا أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم. لذلك توجيه سلاح عسكري إلى بوتين، والمجازفة باندلاع حرب بين الولايات المتحدة وروسيا “أمر لا يمكن حتى تصوره”، بحسب ماركو روبيو، مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية. والواقع أن واقعة غريبة، وإن لم تدم طويلاً، خرج فيها ترمب عن الموضوع الرئيسي، حين تبادل تهديدات نووية مبطنة مع مسؤول روسي بعيد عن مراكز القرار، أثبتت هذه النقطة.
ذخائر متعددة للسلاح الاقتصادي
في الوقت الحالي، لا يمكن رفع أي سلاح سوى السلاح الاقتصادي، وحتى ذلك يُفسح المجال لسيناريوهات كثيرة. اقترح أندريه يرماك، وهو مسؤول أوكراني رفيع المستوى، فرض “حصار اقتصادي شامل”. ومن الأفكار الأخرى مصادرة احتياطيات العملة الروسية المودعة في الخارج ومنحها لأوكرانيا. لكن أياً من تلك الإجراءات لن يؤثر على الأرجح في بوتين الذي تحمل بالفعل مقتل وإصابة نحو مليون روسي منذ 2022، وقدراً هائلاً من العقوبات الاقتصادية الغربية.
إدراكاً لمحدودية هذه الخيارات، يتطلع ترمب حالياً إلى سلاح اقتصادي آخر؛ العقوبات الثانوية. تلك رسوم جمركية تُفرض على الدول التي تستمر في شراء النفط والغاز وغيرهما من الصادرات الروسية، وبالتالي فهي تمول آلة موسكو الحربية. استلهم الرئيس الفكرة من مشروع قانون يحظى بدعم الحزبين في مجلس الشيوخ يسمح بفرض رسوم جمركية ثانوية هائلة بنسبة 500%، وإن كان قد لوح بنسبة أقل تبلغ 100%، وهي لا تزال نسبة كبيرة على أي حال.
النيران قد تصيب دولاً أخرى
المشكلة هي أن تلك العقوبات، رغم توجيهها إلى روسيا، ستضر بدول أخرى، على رأسها الصين والهند أبرز المشترين للمواد الهيدروكربونية من روسيا. ولا يفكر أي منهما في التراجع عن موقفه أيضاً.
الصين تعتبر الولايات المتحدة خصمها الجيوسياسي الرئيسي، وشاركت مع روسيا (ودول أخرى) لتشكيل جبهة تزداد تنسيقاً يوماً بعد يوم. ولم يطرف لها جفن أمام تهديدات ترمب بالرسوم الجمركية الأخرى، بل تعهدت بالرد بالمثل. بطريقة ما، صوبت بكين أسلحتها، ويبدو أنها تعلمت درس شولتز.
الهند وضعها مختلف، وإن كان مشابهاً، فهي تمتع بعلاقات وثيقة مع موسكو منذ عقود، على الرغم من تقاربها إلى حد ما مع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة. علقت واشنطن آمالاً كبيرة على ما يُعرف باسم “الحوار الأمني الرباعي” (Quad)، على سبيل المثال، وهو شبه تحالف بين الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان يهدف إلى إحداث توازن أمام النفوذ الصيني بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما كان رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الزعيم الشعبوي، منسجماً مع ترمب لفترة ما.
ذلك الانسجام تلاشى الآن مع تحول مودي إلى تحدي استفزازات ترمب التجارية بشكل عام- فرضت الولايات المتحدة مؤخراً تعريفة جمركية بنسبة 25% على الصادرات الهندية- والتهديدات بالرسوم الجمركية الثانوية بشكل خاص. وكنتيجة ثانوية لتصويب الولايات المتحدة سلاحها الاقتصادي إلى روسيا، فهي تبدو محاصرة حالياً في دوامة تصعيد مع دولة يُفترض أن تصبح حليفة لها.
أميركا في وضع معقد
تلك التعقيدات تحولت إلى معضلة جيوسياسية كبيرة مع إرسال ترمب مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف إلى روسيا لإجراء محادثات قبل انقضاء المهلة يوم الجمعة. حرص ترمب لشهور على حسن الظن في بوتين. وهذا خطأ ما كان ريغان وشولتز ليقعا فيه، لأن بوتين لم يستحق قط حسن النية من أميركا أو أي دولة.
تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف صعب يتمثل في أن سلاحها لم يعد مصوباً إلى روسيا فحسب، بل إلى الصين والهند أيضاً، ثم ستكتشف على الأرجح أن الدول الثلاث ستتجاهل ذلك. عندما يحدث ذلك، فماذا بعد؟ قد لا تفعل واشنطن شيئاً، فتبدو ضعيفة، أو قد تصوب سلاحاً أكبر لا ترغب في استخدامه. أعتقد أن شولتز كان سيتفق معي حين أقول إن الوضع يبدو سيئاً.