قبل نصف قرن، هزّت صناديق أسواق المال أركان النظام المصرفي الأميركي عندما جذبت مليارات الدولارات من حسابات التوفير بفائدة أعلى وسرعة أكبر. واليوم، يتكرر الأمر في ثوب جديد: العملات المستقرة.

لكن القصة هذه المرة لا تقتصر على أميركا وحدها، بل تمتد من وول ستريت إلى منطقة الخليج وآسيا، لتعيد صياغة العلاقة بين البنوك والعملاء في عصر رقمي بالكامل. سوق هذه العملات بلغ حجمها ما يقارب 250 مليار دولار في منتصف 2025، ومن المتوقع أن تتجاوز تريليوني دولار خلال ثلاث سنوات فحسب. هذا النمو السريع يضعها في قلب النقاشات الاقتصادية حول مستقبل التمويل العالمي.

نزيف محتمل للودائع

أكثر ما يقلق البنوك، خاصة الصغيرة والإقليمية، هو احتمالية فقدان ودائعها لصالح العملات المستقرة. فالمصارف الأميركية تحتفظ حالياً بودائع تتجاوز 18 تريليون دولار، لكن لجنة استشارات الاقتراض بوزارة الخزانة حذرت من أن نحو 6.6 تريليون دولار من الودائع القابلة للسحب السريع قد تتحول إلى العملات المستقرة إذا استمر نموها.

المفارقة أن البنوك تقدم معدلات فائدة هزيلة -بمتوسط 0.39% على حسابات التوفير و0.07% على الحسابات الجارية بحسب بيانات شركة “نيرد وولِت” (NerdWallet) للاستشارات المالية- في حين أن بعض منصات العملات المشفرة مثل “كوين بيس” (Coinbase) تمنح مكافآت على أرصدة عملة USDC تصل إلى 4.1%. 

هذه الفجوة تجعل العملات المستقرة خياراً مغرياً للمودعين، وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربة السبعينيات، حين سحبت صناديق أسواق المال مليارات الدولارات من حسابات الادخار، وأجبرت البنوك لاحقاً على إعادة ابتكار منتجاتها للحفاظ على العملاء.

قد يهمك أيضاً: هل تؤجج العملات المستقرة منافسة واشنطن وبكين؟

إعادة تشكيل المدفوعات والتحويلات

رغم المخاوف، تمثل العملات المستقرة فرصة هائلة لإعادة تشكيل المدفوعات العالمية. فهي تنقل الأموال بسرعة الإنترنت وبتكلفة شبه معدومة، ما يفتح الباب أمام الشركات لتقليص رسوم بطاقات الائتمان التي تتراوح بين 1% و3% من كل معاملة. أما التحويلات الدولية، التي يتجاوز حجمها 700 مليار دولار سنويا برسوم تصل في بعض الأسواق إلى 7%، فهي الأكثر استفادة من هذه التكنولوجيا.

يتوقع تحليل أجرته “بلومبرغ إنتليجنس” (Bloomberg Intelligence) أن تتعامل العملات المستقرة مع مدفوعات بأكثر من 50 تريليون دولار سنوياً بحلول 2030، أي ما يعادل 25% من إجمالي مدفوعات المستهلكين عالمياً، مقارنة مع أقل من 1% اليوم.

التنظيم: من أميركا إلى أوروبا وآسيا

في الولايات المتحدة، جاء قانون “Genius Act” ليوفر أول إطار تشريعي متكامل للعملات المستقرة. القانون ألزم جهات الإصدار بالإفصاح عن احتياطياتها، وفرض معايير صارمة للشفافية، ومنعها من دفع فوائد مباشرة لتقليل المنافسة مع البنوك.

توقيع الرئيس الأميركي على القانون تضمن بعداً سياسياً واضحاً: دعم وول ستريت لهذه السوق الصاعدة وربطه بالنظام المالي الرسمي بدلاً من تركه في الهامش.

على الجانب الأخر من المحيط الأطلسي، يطبق الاتحاد الأوروبي تدريجياً تشريعه الشامل “MiCA” منذ 2024، ليصبح أول إطار قانوني متكامل ينظم ليس فقط العملات المستقرة بل مختلف الأصول المشفرة، مع قواعد دقيقة لرأس المال والإفصاح.

أما في آسيا، حازت سنغافورة السبق بوضع لوائح تحت إشراف سلطة النقد (MAS)، بينما سمحت هونغ كونغ بإطلاق منتجات مستقرة مرخصة لجذب الشركات العالمية. أما الصين، فاختارت مساراً مغايراً عبر طرح اليوان الرقمي (e-CNY) كبديل رسمي يحد من نفوذ العملات المستقرة الأجنبية ويعزز سيطرة الدولة على المدفوعات.

هذه الأطر التنظيمية توضح أن الاتجاه العالمي لم يعد السماح للفوضى، بل دمج العملات المستقرة ضمن أنظمة رقابية واضحة، وهو ما يقلل المخاطر ويفتح الباب أمام تبنيها مؤسسياً على نطاق أوسع.

البنوك.. بين التهديد والابتكار

رغم المخاوف، يمكن للبنوك أن ترى في العملات المستقرة فرصة للابتكار. بعض المؤسسات بدأت بالفعل تجارب عملية، مثل “بنك فيرسا” (Versa Bank) الكندي الذي أطلق برنامجاً تجريبياً لإيصالات إيداع رقمية مدعومة بالدولار. هذه الأداة تشبه شهادات الإيداع البنكية التقليدية لكنها تصدر في شكل رقمي على شبكات بلوكتشين مثل “Ethereum” و”Algorand” ، ما يمنحها القدرة على التداول والتحويل بسرعة الإنترنت، مع بقاء الضمانات المرتبطة بالتأمين المصرفي.

وفي الولايات المتحدة، طور “جيه بي مورغان” (JP Morgan) عملته الرقمية الداخلية (JPM Coin) لتسوية المدفوعات بين عملائه من المؤسسات الكبرى.

هذه المبادرات تشير إلى أن البنوك ليست مضطرة للاكتفاء بدور المتفرج أو الخاسر، بل تستطيع أن تقدم منتجات هجينة تجمع بين الأمان التقليدي والمرونة التكنولوجية.

اقرأ أيضاً: ما هي إيثريوم؟ وكيف تستفيد من طفرة العملات المستقرة؟

انعكاسات على منطقة الخليج

في منطقة الخليج، يكتسب الموضوع بعداً استراتيجياً خاصاً. دول مثل السعودية والإمارات أطلقت مشاريع العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) واختبرتها في أنظمة المدفوعات عبر الحدود، مثل مشروع “عابر” المشترك بين البنك المركزي السعودي ومصرف الإمارات المركزي.

مع ضخامة التحويلات المالية في المنطقة – حيث تتجاوز قيمة التحويلات الخارجة من السعودية والإمارات عشرات المليارات من الدولارات سنوياً – فإن تبني العملات المستقرة أو بدائلها الرسمية قد يخفض التكاليف بشكل ملموس ويزيد الكفاءة.

كما أن مراكز مالية هامة بالمنطقة مثل الرياض ودبي وأبوظبي تسعى لجذب شركات الأصول الرقمية عبر أطر تنظيمية متوازنة، ما يضع المنطقة في موقع يتيح لها لعب دور الوسيط بين الأسواق العالمية والابتكارات المالية الجديدة. وبالنسبة للبنوك الخليجية، فإن تبني منتجات مستقرة أو هجينة قد يكون خطوة لتعزيز مكانتها كمنافس إقليمي في قطاع المدفوعات والتحويلات.

ما المنتظر مستقبلاً؟

العملات المستقرة لم تعد مجرد فكرة على الهامش، بل أصبحت واقعاً بأرقام ضخمة وتشريعات واضحة، من الولايات المتحدة إلى أوروبا وآسيا، ومن الخليج إلى الصين، يتحرك العالم نحو إدماجها ضمن النظام المالي بدل مقاومتها. ومع ذلك، يبقى التحدي قائماً: البنوك الصغيرة مهددة بفقدان جزء من ودائعها، لكن البنوك والمؤسسات التي تستثمر في الابتكار قد تجد نفسها قادرة على قيادة المرحلة المقبلة.

التحول الجاري يعيد إلى الأذهان درساً من الماضي: من يتجاهل التغيير يخسر، ومن يحوله إلى فرصة يصنع المستقبل.

شاركها.