للمرة الأولى منذ التسعينات على الأقل، امتنعت الصين عن شراء أي كميات من فول الصويا الأميركي مع بداية موسم التصدير، في خطوة تعكس استخدام بكين مجدداً للزراعة كورقة ضغط في نزاعها التجاري مع واشنطن.

بصفتها أكبر مشترٍ لفول الصويا عالمياً، تملك الصين تأثيراً واسعاً على حركة الأسواق الدولية. وهي الآن تعود لاستخدام استراتيجية مألوفة تقوم على تقليص مشترياتها من الولايات المتحدة، وهو النهج ذاته الذي لجأت إليه خلال الحرب التجارية الأولى في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بينما يحاول الجانبان الحفاظ على هدنة هشة.

أظهرت بيانات وزارة الزراعة الأميركية أن الصين لم تسجل أي تعاقدات حتى 11 سبتمبر، أي بعد أسبوعين تقريباً من انطلاق موسم التسويق الجديد، في سابقة لم تحدث منذ بدء السجلات في عام 1999. وفي العام الماضي، استحوذت الولايات المتحدة على خُمس واردات الصين من فول الصويا، بقيمة فاقت 12 مليار دولار، وهو ما يمثل أكثر من نصف إجمالي قيمة الصادرات الأميركية من هذه السلعة.

في ظل امتلاكها مخزونات وفيرة، تُظهر بكين أنها تملك الصبر والقدرة على الانتظار، وأنها مستعدة لاستخدام السلع كورقة تفاوض في المحادثات التجارية الأوسع. ويستعد الرئيس شي جين بينغ لإجراء محادثة مع ترمب يوم الجمعة، في وقت يحتدم فيه الخلاف بين البلدين بشأن القيود المفروضة على أشباه الموصلات والمعادن النادرة. كما زادت الصين من ضغوطها بالإعلان عن تحقيقاً أولياً وجد أن شركة “إنفيديا” (Nvidia) انتهكت قوانين مكافحة الاحتكار.

تكتيك استراتيجي صيني

قالت إيفن باي، المحللة الزراعية في شركة الاستشارات “تريفيوم تشاينا” (Trivium China) في بكين: “نهج الصين تجاه فول الصويا يشبه نهجها مع المعادن النادرة، إذ يعكس سنوات من التخطيط الدقيق منذ اندلاع الحرب التجارية السابقة”.

وأضافت أن “المشترين لا يتأثرون فقط بالرسوم الجمركية المرتفعة المفروضة على الفول الأميركي، بل أيضاً بدرجة كبيرة من انعدام اليقين حول مستقبل هذه الرسوم على المدى القصير، فضلاً عن الرسائل السياسية الواضحة التي تؤكد أن بكين لا ترغب في إتمام أي عمليات شراء دون موافقة رسمية”.

يبدو أن هذه الاستراتيجية تؤتي ثمارها. فالمزارعون الأميركيون، الذين يتمتعون بمحاصيل وفيرة، يواجهون أسعاراً قريبة من أدنى مستوياتها منذ سنوات. وقد حذر مزارعو فول الصويا، الذين يشكلون قاعدة انتخابية أساسية لترمب، من “هاوية تجارية ومالية”، داعين الإدارة الأميركية إلى إبرام اتفاق مع الصين لإلغاء الرسوم الجمركية، في وقت تخضع فيه الشحنات المتجهة إلى الصين لرسوم تفوق 20%.

الصين تؤمن مخزوناتها

على الضفة الأخرى من المحيط الهادئ، تسود أجواء أكثر هدوءاً. فقد تمكنت شركات طحن فول الصويا ومربو الخنازير ومنتجو الأعلاف في الصين، الذين تضرروا من الحرب التجارية الأولى، من تأمين إمدادات تكفيهم لأشهر من البرازيل. وضاعف بعضهم مخزوناته، فيما توفر الاحتياطيات الحكومية الضخمة دعماً إضافياً.

اقرأ المزيد: الصين تتجه لفول الصويا البرازيلي مع تصاعد الحرب التجارية

يُستخدم فول الصويا في الصين أساساً لإنتاج كسب الصويا الذي يدخل في صناعة أعلاف الخنازير، وكذلك زيت الصويا المستخدم في الطهي.

وبحسب أشخاص مطلعين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم نظراً لمناقشة شؤون تجارية، اشترى المستوردون الصينيون شحنات تكفي لتغطية احتياجاتهم حتى نهاية هذا العام، وهذا يؤجل أي طلبات عاجلة على الإمدادات الأميركية حتى الربع الأول من 2026 على الأقل.

تجاهل فول الصويا الأميركي

عادةً ما يعتمد المشترون الصينيون على فول الصويا الأميركي في الفترة الممتدة بين أكتوبر وفبراير، قبل وصول محصول أميركا الجنوبية. ويميل المستوردون إلى الحجز قبل أسابيع لضمان الحصول على أسعار أرخص، وكان من المعتاد أن يشتروا بالفعل ملايين الأطنان بحلول هذا الوقت من العام. إلا أن استمرار التوترات التجارية جعلهم يتجنبون الفول الأميركي خشية الرسوم الانتقامية والمخاطر الجيوسياسية.

ولا تقتصر الاستراتيجية الصينية على فول الصويا فحسب، بل امتدت لتشمل تقليص واردات الذرة والقمح والذرة الرفيعة الأميركية في الموسم الجديد، رغم استمرار بكين في استيراد هذه الحبوب من البرازيل وكندا وأستراليا. ورغم التراجع العام في واردات الحبوب مع تباطؤ الاقتصاد، إلا أن هذه الخطوة تأتي في إطار توجه أشمل يهدف إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وتنويع مصادر الإمدادات.

ترمب يركز على ملف الزراعة

في ظل الضغط على المزارعين الأميركيين، يُتوقع أن يتصدر ملف الزراعة جدول أعمال ترمب في محادثاته التجارية المستمرة مع الصين، بحسب آندي روثمان، الدبلوماسي الأميركي السابق والرئيس التنفيذي لشركة “سينولوجي” (Sinology LLC)، التي تقدم استشارات للمستثمرين والشركات بشأن إدارة التوترات الأميركية الصينية.

حذر المزارعون ترمب بالفعل من أزمة وشيكة، فيما دعا الرئيس الصين إلى مضاعفة طلبات فول الصويا من الولايات المتحدة أربع مرات. وأوضح روثمان أن ترمب قد يسعى لتحقيق تقدم في اتفاق تجاري أشمل، لكن التوصل إلى اتفاق جوهري عبر الهاتف يبدو غير مرجح، لا سيما مع استعداد الطرفين لعقد اجتماع مباشر في وقت لاحق من هذا العام.

اقرأ المزيد: لتقليص العجز.. ترمب يطالب الصين بشراء 4 أضعاف شحنات فول الصويا

كما اتخذت الصين بعض الخطوات الرمزية لتخفيف حدة التوترات قبيل المحادثات. فقد استأنفت مشترياتها من النفط الأميركي بعد توقف دام ستة أشهر. كما أوقفت تحقيقاً لمكافحة الاحتكار بشأن هيمنة نظام “أندرويد” التابع لشركة “جوجل”، بحسب ما نقلته صحيفة “فايننشال تايمز” يوم الخميس عن أشخاص مطلعين.

وأوضح روثمان أن الزراعة، خاصة فول الصويا، ستظل محور أي اتفاق. فبدلاً من الأهداف “المستحيلة” المنصوص عليها في اتفاق المرحلة الأولى السابق، من المتوقع أن يتوصل الطرفان إلى التزامات أكثر واقعية.

الصين تلعب بالنار

مع ذلك، فإن استراتيجية الصين القائمة على تجنب فول الصويا الأميركي لا تخلو من المخاطر. فقد ارتفعت أسعار الفول البرازيلي بشكل ملحوظ منذ بداية العام، وأي اضطراب في المحاصيل بأميركا الجنوبية قد يقلص الإمدادات. وفي حال تراجع الإنتاج هناك، قد تجد بكين نفسها مضطرة للاعتماد على احتياطياتها الاستراتيجية في وقت أبكر مما هو مخطط له.

لكن في ظل وفرة الإمدادات حالياً، فإن احتمالية إبرام اتفاق تجاري وشيك قد تثير المخاوف داخل الصين. إذ إن إقدام بكين على شراء فول الصويا الأميركي بشكل مفاجئ قد يؤدي إلى فائض في المعروض يضغط على أسعار كسب الصويا المحلية نحو الهبوط، ما قد يربك استراتيجيات التخزين والتحوط التي اعتمدها المنتجون على مدار الأشهر الماضية.

وفي شمال الصين، قال أحد مديري المشتريات إنه لم يؤمن سوى احتياجاته حتى الشهر المقبل بسبب وفرة المخزون. فيما حذر مدير آخر في إحدى شركات الطحن الكبرى من أن تدفق الفول الأميركي بشكل غير متوقع قد يتسبب بانهيار أسعار كسب الصويا. وكلاهما طلب عدم الكشف عن هويته لعدم امتلاكه تصريحاً للحديث علناً.

الجانب المظلم من الرسوم الجمركية

لولا الرسوم الجمركية، لظلت الولايات المتحدة واحدة من أكثر موردي فول الصويا كفاءة وأقلهم تكلفة، لكن الصين تدفع سعراً أعلى لتجنب هذه الإمدادات، بحسب ما ذكرته باي من “تريفيوم”. وكلما طالت فترة التمسك بهذه السياسة، ارتفعت تكلفتها وزادت معاناة الاستغناء عن الإمدادات الأميركية.

خلال الحرب التجارية الأولى، ورغم فرض الصين رسوماً انتقامية على فول الصويا الأميركي، فقد منحت بعض الاستثناءات وسمحت للشركات بجلب كميات محدودة من المنتجات الزراعية.

وقالت باي: “إذا تم التوصل إلى اتفاق، فسيكون هناك بالتأكيد مستوى معين من الطلب على فول الصويا الأميركي من جانب المشترين الصينيين. المسألة تكمن في الحرب التجارية نفسها، وليست غياب الطلب كلياً”.

شاركها.