اللعبة القطبية الكبرى
لا تتعلق تصريحات ترامب المتكررة عن شراء غرينلاند -أو الاستيلاء عليها بالقوة إذا تطلب الأمر- بمجرد صفقة عقارية رابحة استهوته، لكنها تعكس تصميما مستجدا من واشنطن لتنفيذ خطة قديمة، تعزز بها وجودها في القطب الشمالي لمواجهة الطموح المتزايد لروسيا والصين هناك.
وفي هذا السياق، يقول الباحث والمحلل الإستراتيجي البريطاني توماس فازي في مدونته “إن الصراع على القطب الشمالي إحدى الألعاب الكبرى الجديدة في القرن الـ21، وهي الألعاب التي بدأت بالفعل” مشيرا إلى أنه على وشك أن يصبح نقطة اشتعال في التنافس بين أميركا ومحور الصين وروسيا.
ومن شأن شراء هذه الجزيرة أو ضمها أن يجعل الولايات المتحدة ثاني أكبر دولة في العالم بعد روسيا، كما ستكسب واشنطن ميزة إستراتيجية في منطقة شمال الأطلسي والقطب الشمالي، فضلا عن الوصول إلى أكبر رواسب المعادن الأرضية النادرة -المفترضة- الواقعة خارج الصين، وكذلك حقول النفط والغاز البحرية الضخمة.
وتشير التقديرات إلى أن غرينلاند التي يغطي الجليد 79% من مساحتها تحتوي على رواسب هائلة من اليورانيوم والليثيوم والكوبالت وعناصر الأرض النادرة ذات الأهمية البالغة في الصناعات التكنولوجية الدقيقة، والتي تسيطر الصين على الجزء الأكبر من إنتاجها واحتياطاتها عالميا، بينما تعتمد الولايات المتحدة على بكين لتلبية احتياجاتها منها.
وحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” تشهد منطقة القطب الشمالي ارتفاعا في درجات الحرارة بمعدل يفوق 4 أضعاف المتوسط العالمي خلال العقود الأخيرة، مما أدى إلى تقلص الغطاء الجليدي من 4.3 ملايين كيلومتر مربع عام 1979 إلى 2.7 مليون كيلومتر مربع سنة 2024.
وباتت المناطق البحرية في غرينلاند أكثر سهولة في الوصول إليها لاستكشاف النفط والغاز بعد ذوبان الجليد، مما فتح الباب أمام سباق بين القوى العالمية للسيطرة على هذه المنطقة لأسباب اقتصادية أكثر منها عسكرية كما حصل في السابق.
وكانت واشنطن خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها سباقة إلى غرينلاند، نظرا لأهميتها بالنسبة لأمنها وحلفائها، فأنشأت فيها “دورية غرينلاند” (Greenland Patrol) وهو أسطول في القطب الشمالي لمراقبة النشاط السوفياتي.
كما شيدت قواعد ومرافق عسكرية أخرى، مثل قاعدة ثولي (بيتوفيك حاليا) الجوية عام 1951 والتي بنيت سرا لصد الهجمات السوفياتية المحتملة على أميركا الشمالية ولتزويد المقاتلات والقاذفات الأميركية بالوقود. وما زالت تلك القاعدة من الأصول الإستراتيجية المهمة للجيش الأميركي.
وقد أنشأت الولايات المتحدة أيضا قاعدة قطبية بالغة السرية عرفت باسم “معسكر القرن” (Camp Century) كجزء من “مشروع دودة الجليد” ( Iceworm) على أساس أنها “مجمّع بحثي عن بعد” لكنها كانت في الأصل مركز تخزين صواريخ نووية تحت طبقات الجليد تكون قادرة على الوصول إلى الاتحاد السوفياتي، وتم إنهاء المشروع عام 1967، ودُفنت تلك القاعدة تحت الجليد.
وعاد الاهتمام الأميركي بغرينلاند استجابة للوضع الجيوسياسي المتغير بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي 23 يوليو/تموز 2024 وضعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إستراتيجية أمنية جديدة للقطب الشمالي تقضي بزيادة الوجود العسكري والقدرات الاستخباراتية والتعاون مع الحلفاء، وهو ما اعتبرته موسكو تصعيدا للتوترات الأمنية في المنطقة.
وتقر “إستراتيجية وزارة الدفاع للقطب الشمالي لعام 2024″ بأن البنية التحتية الأميركية في القطب الشمالي، والتي تم بناؤها في الغالب خلال الحرب الباردة، تواجه تدهورا بسبب ذوبان الجليد الدائم وتآكل السواحل.
ونقلت مجلة بوليتيكو الأميركية عن مايك والتز، مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب قوله إن “الأمر لا يتعلق فقط بغرينلاند، بل بالقطب الشمالي، لدينا هنا روسيا التي تحاول أن تصبح ملكة.. يتعلق الأمر بالنفط والغاز، وبأمننا القومي، وبالمعادن الحيوية”.
وفي معرض تفسيرها للإستراتيجية الجديدة، قالت كاثلين هيكس نائبة وزير الدفاع الأميركي للمجلة “لقد شهدنا تعاونا متزايدا بين الصين وروسيا في القطب الشمالي، تجاريا، حيث تعد الصين ممولا رئيسيا لاستغلال الطاقة الروسية في القطب الشمالي، وعسكريا حيث تجري روسيا والصين تدريبات مشتركة قبالة سواحل ألاسكا”.
ولا تتمتع روسيا بحضور في غرينلاند، لكنها على مدى العقدين الماضيين كانت سباقة في فهم الصراع على القطب الشمالي وتشكيل أدواته، فقامت ببناء أسطول ضخم من كاسحات الجليد النووية والسفن والغواصات القادرة على حمل الأسلحة النووية.
كما توجهت روسيا إلى تطوير المزيد من عمليات التعدين وآبار الغاز والنفط ومحطات النقل على طول 24 ألف كيلومتر من ساحلها في القطب الشمالي، وتعمل جاهدة للسيطرة على “طريق البحر الشمالي” الجديد أو ما يعرف بـ”طريق البحر عبر القطب الشمالي” الذي قد يبدأ الافتتاح بحلول عام 2035 مع ذوبان الجليد بشكل مستمر.
وتقوم الصين بمساعدة روسيا على تطوير “مشروع الغاز الطبيعي المسال 2” في القطب الشمالي بتكلفة 20 مليار دولار. وبينما انسحبت الشركات الغربية منه بعد العقوبات الأميركية على المشروع عام 2023، تدخلت شركات صينية مثل “بتروشاينا” لمنع انهياره في إطار تعاون روسي صيني متزايد بالمنطقة.
ويشير أندرياس أوستهاغن المحلل السياسي -لمجلة بوليتيكو- إلى أن روسيا تنظر بشكل متزايد إلى ساحل القطب الشمالي بأكمله على مسافة 1800 كيلومتر باتجاه الغرب من طرف شبه جزيرة ألاسكا، باعتباره مجالا إستراتيجيا حيويا .
وحسب تقرير لموقع أوراسيان تايمز، سيتيح فتح ذوبان الجليد بالقطب الشمالي أمام روسيا فرصا قد تغير بشكل كبير سياقات التجارة العالمية، حيث سيمنحها الطريق البحري الشمالي فوائد إستراتيجية وتجارية هائلة، وقد يقلل أوقات العبور بين آسيا وأوروبا بنحو 40%، متجاوزا الطرق التقليدية عبر قناتي بنما والسويس.
ويرجح الخبراء أن يصبح طريق الشمال البحري بمثابة المحور الرئيسي لإستراتيجية الطاقة الجديدة التي تنتهجها موسكو التي أنشأت الموانئ ومحطات الربط وأسطول كاسحات الجليد للاستفادة من طرق الشحن الجديدة لتصدير النفط والغاز الطبيعي المسال، وغير ذلك من الموارد من مناطق القطب الشمالي إلى الأسواق العالمية. كما وسعت من وجودها العسكري في المنطقة، وهو ما أثار انزعاجا أميركيا واضحا.
وفي المقابل، تشكل غرينلاند أهمية كبرى لأمن الجزء الأميركي من القطب الشمالي (ألاسكا) والحدود المشتركة مع روسيا عبر مضيق بيرينغ (Beiring) -الذي يفصل بين قارتي آسيا وأميركا الشمالية- وبحر قزوين، وهو ما يستوجب الاقتراب أكثر من مواقع القوات الإستراتيجية الروسية في أقصى شرقها ومراقبة النشاط الجوي الروسي عبر مضيق بيرينغ والرد عليه.
كما تسعى واشنطن أيضا للسيطرة على الممرات البحرية الرئيسية، إذ بعد فترة طويلة من الإهمال بعد الحرب الباردة، عادت “فجوة جيوك” -وهي نقطة اختناق بحرية رئيسية بين غرينلاند وآيسلندا والمملكة المتحدة- كواحدة من المخاوف البحرية الإستراتيجية الرئيسية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويرى أوستهاغن أن “مهمة ردع روسيا في (منطقة) شمال الأطلسي والقطب الشمالي الأوروبي أصبحت أكثر إلحاحا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن هذه مهمة مستمرة ودائمة تتطلب الاهتمام طالما ظلت روسيا دولة محاربة في مواجهة الغرب”.
وتمتلك روسيا أسطولا ضخما من كاسحات الجليد يضم أكثر من 36 سفينة، معظمها يعمل بالطاقة النووية. بينما لدى الولايات المتحدة كاسحتا جليد فقط، إحداها يبلغ عمرها 50 عاما، وهو ما يجعل روسيا متفوقة حتى الآن بشكل كبير في المنطقة حسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.
وبدورها، تمتلك الصين كاسحتي جليد، كما بدأت في بناء العديد من كاسحات الجليد الثقيلة لأسطول خفر السواحل كجزء من إستراتيجيتها في منطقة القطب الشمالي، وفق ما نقله تقرير مركز خدمات الاستخبارات الجيوسياسية.