لم يعد سلاح الرسوم الجمركية مجرد أداة ضغط تقليدية في يد واشنطن، بل تحول على يد الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى مدفعية ثقيلة تستهدف الخطوط الخلفية لتجارة خصومه.

في حملته للفوز بفترته الرئاسية الأولى، صرح بأن “الرسوم الجمركية هي أعظم سلاح لدينا”، وهو ما جسده عملياً في فترته الثانية حين صعد من تكتيكاته عبر “الرسوم الثانوية”، وهي الأداة الجديدة التي وجد فيها ترمب ضالته لتوسيع نطاق المعركة التجارية عالمياً.

ما هي الرسوم الجمركية الثانوية؟

هي عقوبات تجارية تفرضها دولة –مثل الولايات المتحدة– على أطراف أجنبية تتعامل مع كيانات أو دول مستهدفة بالعقوبات. وتهدف إلى ردع الشركات والبنوك العالمية عن دعم الخصوم بشكل غير مباشر عبر زيادة كلفة تعاملاتهم.

تُعد هذه الأداة مختلفة تماماً عن  التي تُستخدم عادة في النزاعات التجارية التقليدية، إذ تختلف كل من النية والنتائج المتوقعة لكلا النوعين.

لماذا يلجأ ترمب لها؟

يعتبر ترمب التجارة احد أهم وسائل تسوية الحروب، والرسوم الجمركية الثانوية تمثل تطوراً في أدوات الضغط الجيوسياسية، حيث يستخدمها لاستهداف الدول المتعاملة مع الخصوم مثل روسيا أو فنزويلا، من خلال تحميلها تبعات دعمها الاقتصادي لهم، بحسب تقرير لشبكة “بي بي سي” البريطانية.

وهناك هدف آخر أيضاً يتمثل في إنعاش الخزينة الأميركية إذ صرح مستشار الرئيس الأميركي للشؤون التجارية بيتر نافارو  لبرنامج “فوكس نيوز صنداي” بأن الولايات المتحدة تخطط للحصول على 6 تريليونات دولار من خلال فرض الرسوم الجمركية. وأشار إلى أن زيادة الرسوم على السيارات ربما يمنح بلاده 100 مليار دولار من الإيرادات.

كما استخدمت هذه الرسوم لمواجهة التحايل على حظر التجارة باستخدام أساليب التفافية من بينها عادة تصدير النفط عبر دول ثالثة.

اعرف المزيد: الرسوم الثانوية.. سلاح ترمب الجديد

ما أبرز الدول المستهدفة بنيران الرسوم الأميركية الثانوية؟

تشمل القائمة الصين وروسيا وإيران وفنزويلا.

الصين كانت الأبرز على هذا الصعيد، بعد أن طالتها تعريفات جمركية واسعة في ولايتي ترمب الأولى والثانية، إلى جانب القيود المشددة على شركات التكنولوجيا العملاقة مثل “هواوي” و”زد تي إي”.
 تليها روسيا التي واجهت عقوبات غير مسبوقة عقب غزو أوكرانيا، لم تقتصر على المؤسسات الروسية بل شملت أي دولة أو شركة تتعامل مع موسكو في مجالات الطاقة والمال.

ومن ذلك معاقبة واشنطن للهند التي تضاعفت الرسوم المفروضة عليها إلى 50% نتيجة استمرارها في استيراد النفط من روسيا.

وفي إيران عاقبت واشنطن بنوكاً أوروبية كبرى – بينها “بي إن بي باريبا” الفرنسي – بمليارات الدولارات لمخالفتها العقوبات.

كما فرضت الإدارة الأميركية رسوماً 25% على دول تستورد النفط من فنزويلا. واضطر بعض من مشتري النفط الفنزويلي إلى وقف شحناتهم مثل شركة “ريلاينس إنداستريز” (Reliance Industries) الهندية، “وفق بلومبرغ”. وقال الرئيس ترمب في منشور على منصة “تروث سوشيال” في مارس الماضي، إن سبب فرض رسوم جمركية ثانوية بنسبة 25% على كل دولة تشتري النفط من فنزويلا هو أن هذه الأخيرة “أرسلت عمداً مجرمين إلى الولايات المتحدة”، وهو ما وصفه بأنه “عمل عدائي ضد الأمن القومي الأميركي”.

هذه الاستراتيجية الجديدة تنضم إلى أدوات ترمب المتزايدة التي يوظفها لاستخدام النفوذ الاقتصادي الأميركي لتحقيق أهداف سياسية داخلية وخارجية.

إلى أي مدى قد تؤثر الرسوم الثانوية على الاقتصاد العالمي؟

الرسوم الثانوية التي تفرضها الولايات المتحدة على الأطراف المتعاملة مع دول أو كيانات مستهدفة قد تُحدث اضطراباً واسعاً في الاقتصاد العالمي، إذ إنها لا تقتصر على معاقبة الخصوم المباشرين، بل تمتد لتطال شركات وبنوك في دول ثالثة، ما يرفع كلفة التجارة ويزيد من تعقيد سلاسل التوريد. 

وبالنسبة لتأثير هذه الرسوم على أسعار النفط، أوضح تقرير لموقع هيئة “دويتشه فيله” الألمانية أن ارتفاع أسعار النفط قد يؤدي إلى قفزة حادة في معدلات التضخم العالمي. وسلط التقرير الضوء على الصين التي تقع في قلب الجدل، إذ تشتري النسبة الأكبر من النفط الروسي.

يشير محلل الطاقة كيران تومبكنز من “كابيتال إيكونوميكس” في تقرير لمحطة “بي بي سي” البريطانية إلى أن نجاح الرسوم الجمركية الثانوية سيقلل تدفق النفط الروسي للأسواق، ما قد يرفع الأسعار”. لكنه أشار إلى وجود فائض لدى دول تحالف “أوبك+” قد يخفف هذا الأثر.

أعلى رسوم منذ الحرب العالمية الثانية تضعف النمو وتغذي التضخم.. تفاصيل أكثر هنا 

على الجانب الأوروبي، حذر تقرير “بي بي سي” من أن فرض رسوم ثانوية جديدة ربما يعرقل التجارة عبر الأطلسي، لا سيما وأن صادرات أوروبا لأميركا تشمل أدوية وآلات يصعب الاستغناء عنها، ما يعني احتمال ارتفاع الأسعار داخل السوق الأميركية نفسها.

كيف تحولت الرسوم الثانوية لصداع في رأس سلاسل الإمداد؟

حذر تقرير حديث لشركة “ميرسك” من خطر تقويض استقرار سلاسل الإمداد العالمية، لا سيما بسبب سرعة فرض الرسوم واتساع نطاقها الجغرافي والسلعي. شملت الإجراءات إلغاء العمل بحد الإعفاء الجمركي في الولايات المتحدة الأميركية على الشحنات منخفضة القيمة، وهو من الأمور شديدة التأثير إذ أضطر المستوردون مهما كان حجم العمل للامتثال لإجراءات جمركية كاملة، بما في ذلك التصريح عن منشأ البضاعة وتقديم مستندات التفتيش والشهادات الصحية والمعايير البيئية.

تعريفات ترمب الجمركية تستهدف ثغرة يستغلها تجار التجزئة الصينيون

وأوضح جون بيسون، الرئيس التنفيذي لـ”دي إتش إل إكسبريس” في مقابلة مع “الشرق”  أن الغموض يلف بيئة التجارة العالمية وسط حرب رسوم جمركية أسفرت عن تغيرفي حركة البضائع، ودفعت التجار للبحث عن أسواق جديدة.




من أهم الظواهر المرتبطة بالرسوم الجمركية الثانوية أيضاً -بحسب تقرير موقع “شابيرو” (Shapiro)- لجوء شركات الشحن إلى توسيع الاعتماد على تشغيل “أسطول الظل”؛ وهو أسطول من الناقلات غير المعروفة الجهات، ما صعب عملية تتبع منشأ الحمولة وتأمينها. أضاف التقرير أن الإجراءات التنظيمية المعقدة تتسبب في تأخيرات في الموانئ وارتفاع التكاليف التشغيلية في كل بنية لوجيستية معنية. ونبه التقرير إلى أن التقاطع بين السياسة والتجارة يشكل تهديداً مباشراً لسلاسل التوريد، حتى قبل فرض الرسوم العقابية.

كيف تضر الرسوم الثانوية التصنيع العالمي؟

يشير تقرير مؤسسة “تاكس فاونديشن” (Tax Foundation) إلى أن الرسوم الجمركية الثانوية تؤدي إلى إضعاف التنافسية الصناعية من خلال ارتفاع تكاليف الإنتاج وتقلص هوامش الربح إذ ترتفع أسعار المدخلات المستخدمة في الصناعات الأميركية والأوروبية وغيرها. فعندما تضطر الشركات إلى دفع رسوم على واردات مثل المعادن أو المكونات التقنية الحيوية، فإن أرباحها تتقلص، وتصبح أقل قدرة على الاستثمار في الابتكار أو توسيع خطوط الإنتاج. كما لا يمكن تعويض ذلك تلقائياً عبر التحول إلى مصادر محلية أعلى تكلفة. وتؤكد دراسة للمؤسسة الأميركية أن ارتفاع الأسعار بفعل الرسوم لا يؤدي إلى نمو في الإنتاج المحلي بل يخفض ربحية الشركات ويؤثر سلباً على العمالة والأجور. 

من جهة أخرى، تعيد الرسوم الثانوية تخصيص الاستثمارات نحو قطاعات أقل إنتاجية إذ تقود هذه السياسات إلى تحفيز الصناعات ذات الكفاءة الأقل، مثل التحول من إنتاج من الطائرات إلى المنسوجات، ما يقلل القيمة المضافة. ووفقاً لتقرير “تاكس فاونديشن”، فإن الرسوم تعيد توجيه العمالة ورأس المال من القطاعات عالية القيمة إلى مجالات منخفضة الكفاءة، مما يقلل إنتاجية الاقتصاد الأميركي على المدى الطويل.

الإنتاج الصناعي الأميركي يتراجع في يوليو وسط ضعف الطلب.. تفاصيل أكثر هنا

ما الإجراءات المضادة من قبل الدول المستهدفة؟

تنوعت أساليب الدول في الرد على زيادة الرسوم الجمركية الأميركية من توسيع التعاون مع شركاء تجاريين الي اتخاذ إجراءات عقابية ضد الولايات المتحدة التي ظهرت كشريك اقتصادي غير موثوق. 

على سبيل المثال، بدأت الصين حملة واسعة لتعزيز نشاط شركاتها في الأسواق لتعويض انحسار التعرض للسوق الأميركية. وأشارت شركة “إس آند بي غلوبال” إلى تضاعف صادرات الصين لدول جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط  العقد الماضي، كما نمت شحناتها إلى دول غرب أوروبا 58%. أضافت الشركة أن الأعوام الخمسة التي أعقبت الولاية الأولى لترمب شهدت تسارع هذا التحول.

اقرأ أيضاً: الصين تتعهد باتخاذ “كافة التدابير اللازمة” ضد الرسوم الأميركية

في نفس السياق عملت دول كثيرة على تعزز التعاون الثنائي لمواجهة تداعيات الرسوم الجمركية. اتفقت كندا والمكسيك على إطار عمل شامل يضمن توافر سلاسل إمداد قوية وفتح خطوط تجارة بين الموانئ. وكشفت وزيرة الخارجية الكندية أنيتا أناند أن الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، وأمن الطاقة، من بين مجالات التعاون التي تحظي باهتمام كبير.

وفي الهند التي لجأت الدولة لتخفيض ضرائب الاستهلاك لدعم الاقتصاد وتعويض تداعيات الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة، كما قررت تعليق خطط شراء أسلحة وطائرات أميركية جديدة. وأوضح جاري أنج، كبير خبراء اقتصاد منطقة آسيا والمحيط الهادئ في “ناتيكسيس” (Natixis) خلال لقاء مع “الشرق”، أن الرسوم الأميركية على الهند تمثل اختباراً جديداً للقيود الثانوية، محذراً من أن تكلفتها سترتد على المستهلك الأميركي، لا سيما في بضائع مثل الهواتف الذكية.




وعملت الهند كذلك على توطيد العلاقات مع جارتها اللدودة الصين. ويُتوقع أن يزور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بكين نهاية الشهر الحالي، وهي الزيارة الأولى منذ 7 أعوام. 

شاركها.