رصد الباحث عبدالله عبدالرحمن الوهيبي، ميل الإنسان المعاصر في فضاء التواصل نحو «الإفصاح الذاتي المفرط والتعري الطوعي وتسليع اليوميات وتطبيع التلصص»، فيما كان الإسدال على الحياة الخاصة بسدل سابغ من التحفظ والحياء، هو الأصل النفسي والاجتماعي للناس.

وأكد في كتابه (موت الأسرار.. الكشف عن الذات في العصر الرقمي)، أننا نعيش في عالم، تتلاشى فيه الحدود بين الخاص والعام، وتطرح فيه الخصوصية للبيع في مزاد علني على منصات التواصل الاجتماعي. وعرض إجمالاً للأسرار كما تظهر في البحث النفسي والاجتماعي المعاصر، مع تحليل لانعكاسات الكتمان والإفشاء على الذات والصلات الاجتماعية، وكشف الجذورالعقائدية والثقافية المتحكمة في مسارات البحث وطرق التفكير في الأسرار.

ودرس منظومة الأفكار والممارسات التي انبثقت عن مجمل الأطروحة النفسية المعاصرة، وحلّل آثارها في طرق التفكير في أسرار الذات، ودور الوعي النفساني المهيمن في تشجيع الإفشاءات والتنقير في الخفايا الجوانية، وتطبيع «الأصالة الدنسة».

وعدّ البحث في الثقافة النفسانية بحثاً في جوهر موضوع الكتاب، لئلا تتلاشى الحدود التي تفصل بين الفضاء الخاص والعام ما يعد أحد الإنجازات المهمة للثقافة العلاجية ويرى أن «الذات في ظل هذه الثقافة يتسم بسمتين متوازيتين، الأولى أنها تغدو أكثر خصوصية بتمحورها الجواني المفرط، والثانية أنها تزداد عمومية في الخطاب التواصلي؛ بمعنى أنها تستحوذ عليها لغة معينة تجعل للحياة الخاصة قابلية للسرد، وتصير الذات هدفاً لتقييم الآخرين».

وتعقّب الوهيبي الظواهر المتولدة عن الثقافة العلاجية، أو المتأثرة بها، كمجموعات اللقاء والدعم وحركة التعافي، واستطرد في عرض إجمالي لجذور الاعتراف الكنسي ودلالاته الثقافية، ونتائج الثقافة النفسانية الشعبية كما تجلت في برامج الحوارات الاعترافية، وما سيُعرف لاحقاً بتلفزيون الواقع.

وكشف عن آثار التحوّل الهائل للكشف عن الذات والانتهاكات الطوعية للأسرار الخاصة في الفضاءات الرقمية الجديدة، وأفاض في تحليل البنى الداخلية لعمل شبكات التواصل، وتأثيرات هذه البنى على تشجيع الإفشاء المنهجي، وعقد مباحث عدة لدراسة بواعث الكشف، ودوافع متابعة الكاشفين، وتبعات مسرحة الكشف عن الذات في العالم الافتراضي، كما تناول فخاخ الرقابة وأخطار التنقير الرقمي.

وعرض ملامح من الرؤية الإيمانية للأسرار الخاصة والاجتماعية، ودرس طرفاً من التقريرات الفقهية الثرية المنظمة لحدود التصرفات الخاصة، وربطها بدلالات أحكام الستر والنصح والفضح والمجاهرة، وطبيعة الفضاء العام في نظام الشرع، وشرح الفوارق المميزة بين طرق التفكير في الخصوصية بين الشرع، والليبرالية المعاصرة.

وتضمن الكتاب إطاراً عاماً لتحليل ظاهرة الكشف عن خصوصية الذات والتعري النفساني في الفضاءات العامة (الأمريكية والأوروبية)، وذلك من خلال تأمل التاريخ الثقافي والاجتماعي للنزوع نحو الشفافية بأعم معانيها في أيديولوجية الحداثة، لا سيما حداثة القرن العشرين، وعبر استكشاف تاريخ الاعتقاد بأولوية الأصالة وأهميتها الرومانتيكية، وبحث مظاهر هذه الظاهرة وتجلياتها في ثقافة القرن العشرين، ومنذ ظهور الحكايات والاعترافات السرية في الصحافة الشعبية في المدة ما بين (١٩٣٠ – ١٩٦٠)، ثم بروز برامج الحوارات الاعترافية «التوك شو» في الإعلام الجماهيري في المدة ما بين (۱۹٦٠ – ۲۰۰۰)، ثم برامج تلفزيون الواقع منذ التسعينات إلى ۲۰۱۰، وأخيراً ثورة منصات التواصل الاجتماعي منذ 2010 إلى الآن.

مراقبة السلوك الرقمي

ودعا الوهيبي لمراقبة السلوك الرقمي، فاعلاً ومنفعلاً مؤثراً ومتأثراً ناشراً ومتابعاً، ومتتبعاً دوافع الخرق الطوعي لسدل الخصوصية وتطبيع ثقافة الاعتراف والاقتيات على يوميات الآخرين في ضوء الأبحاث النفسية والسلوكية، وعدّ المحطات التاريخية بارزة الأثر في كسر شيء من حدود الخاص، وتجلية تبدل الموقع الاجتماعي للأسرار غير أن ذلك التبدل كان فئوياً لبعض الخارجين عن شروط الجماعة القيمية من المشاهير من أهل الفن ومن شاكلهم، وما بين تلك المحطات التاريخية والمحطة الأخيرة التي ما زلنا أسارى سطوتها كانت النقلات الأكبر واختلاط الخاص بالعام والاتساع المرعب في رقعة تهشيم الحدود بينهما.

شاركها.