يمتلك برامول دهاوان وتينا فاندرستيل معاً خبرة تتجاوز خمسين عاماً في الأسواق الناشئة. ولا يتذكران سوى مرات نادرة، إن وُجدت، أنهما تلقيا هذا الكمّ المتواصل من الاتصالات، إذ تتوالى عليهما المكالمات من مستثمرين يتسابقون لركوب موجة الصعود القوية التي تجتاح هذه الفئة من الأصول.

بالنسبة إلى دهاوان، رئيس قسم إدارة محافظ الأسواق الناشئة في شركة “باسيفيك إنفستمنت مانجمنت” (Pacific Investment Management)، تطلّب الأمر بعض الوقت ليعتاد على هذا الواقع الجديد. فعلى مدى سنوات، كان هو من يبادر للاتصال بالعملاء الواحد تلو الآخر، محاولاً جذب اهتمامهم بأسواق الدول في طور النموّ.

أما فاندرستيل، التي تشرف على سندات الأسواق الناشئة لدى “غرانثام مايو فان أوتيرلو” (Grantham Mayo Van Otterloo & Co)، فتنفست الصعداء. فهي وفريقها كانوا قد أعلنوا بجرأة في مطلع العام الماضي عن وجود “فرصة لا تتكرر إلا مرة كلّ جيل” في السندات المحلية للدول النامية.

خروج من الدولار نتيجة الحرب التجارية

برأيها، لم يكن الأمر يحتاج سوى محفّز، أي إلى عامل يدفع المستثمرين إلى إعادة النظر في الأساسيات الاقتصادية لتلك الأسواق والدول. وبعد أكثر من عام من الترقب، حلت أخيراً تلك اللحظة في الثاني من أبريل، حين أطلق الرئيس دونالد ترمب من حديقة البيت الأبيض شرارة حرب تجارية عالمية زعزعت ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأميركي، ودفعتهم إلى الهروب الجماعي من الدولار.

صحيح أن قسماً كبيراً من تلك الأموال اتجه نحو دول متقدمة أخرى، لكن مليارات الدولارات تدفقت إلى أسواق دول نامية، فأعادت إحياء فئة من الأصول ظلت لسنوات مهمشة في الأوساط الاستثمارية. فمن الأسهم الغانية إلى السندات البوليفية، شهدت الأسواق الناشئة موجة صعود واسعة، حيث ارتفع مؤشر “مورغان ستانلي كابيتال إنترناشونال” للأسهم بنسبة 17% هذا العام مقوّماً بالدولار، أي ما يقارب ضعف مكاسب مؤشر “ستاندرد آند بورز 500”. أما المؤشر الشقيق الذي يرصد العائدات الإجمالية للعملات، فسجل أفضل أداء نصف سنوي له منذ عام 2009، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السندات المحلية التي كانت فاندرستيل تروج لها.

قالت فاندرستيل “فجأة، هذا العام، بدأ الناس ينتبهون لذلك”. مع ذلك، تقرّ أنه ليس لديها رأي قاطع حيال ما إذا كانت هذه التطورات تشير فعلاً إلى نهاية هيمنة الدولار كما يروّج البعض، لكن ما هي متأكدة منه أنه “لم يسبق أن تلقيت هذا العدد من الاتصالات والرسائل والأسئلة من أصدقاء لا علاقة لهم بالأسواق يسألونني: ‘كيف أخرج من الدولار؟’ الجميع بات يبحث عن التنويع”.

شهدت الأسواق الناشئة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية كثيراً من موجات الصعود الواعدة التي ما لبثت أن تلاشت بسرعة.
ومع ذلك، سماع ما يقوله كل من فاندرستيل ودهاوان وغيرهما من المخضرمين في هذا المجال يوحي بأن الصورة قد تكون مختلفة هذه المرة إلى حدّ ما، ويُعزى ذلك في جزء منه إلى انخفاض التقييمات، وتمتع العديد من الدول بأسس اقتصادية قوية، وفي جزء آخر إلى المراجعات التي تجريها مؤسسات استثمارية كبرى، وشركات تأمين، وصناديق ثروة سيادية حول العالم لمكانة الدولار ضمن محافظها.

اقرأ أيضاً: ترمب: أفضل الدولار القوي.. لكن انخفاضه مفيد

فعلى سبيل المثال، بدأ مارك بريسكت وزملاؤه في شركة “مورنينغستار ويلث” (Morningstar Wealth) ببيع بعض حيازاتهم في الولايات المتحدة وبعض الاقتصادات المتقدمة، وضخ العائدات في الأسواق الناشئة.
وقال بريسكت، مدير المحافظ في لندن الذي يسهم في إدارة أصول تُقدّر بـ300 مليار دولار “بدأنا نلحظ تراجع هيمنة الدولار”.

صعود وهبوط

انبثقت الأسواق الناشئة كفئة أصول مستقلة في أعقاب “العقد الضائع” الذي طغت عليه عمليات إعادة هيكلة الديون من الإكوادور إلى باكستان، ما جذب اهتمام وول ستريت بهذه الأسواق خلال تسعينات القرن الماضي. كانت فاندرستيل تعمل آنذاك لدى “جيه بي مورغان تشيس”، ضمن الفريق الذي أطلق مؤشر سندات الأسواق الناشئة (EMBI)، الذي أسهم في ترسيخ مكانتها كوجهة استثمارية رئيسية.

بلغ الزخم ذروته في مطلع الألفية، حين أشعلت دورة ارتفاع قوية في أسعار السلع الأساسية موجة صعود شاملة، تضاعفت خلالها أسعار كل شيء من المعادن إلى المنتجات الزراعية، وارتفعت معها قيمة أصول الأسواق الناشئة. ففي عام 2007، سجّلت البورصة البرازيلية رقماً قياسياً في عدد الطروحات العامة الأولية، مع إدراج نحو 60 شركة، وذلك بعد أن كانت الأسهم قد قفزت أكثر من أربع مرات خلال السنوات السابقة.

ومع تسارع وتيرة الصعود، اضطرت دول من تايوان إلى كوريا الجنوبية إلى التدخل لكبح جماح ارتفاعات حادّة جعلت عملاتها مقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية.

وقد استمر هذا الازدهار لأكثر من عقد بقليل، قبل أن تبدأ ملامح التباطؤ بالظهور.

كانت تداعيات الهبوط قاسية للغاية. فقد دخلت أسواق الأسهم في حالة ركود طويلة، وظلّت المؤشرات المعيارية شبه جامدة طوال 14 عاماً، لدرجة أن 190 صندوقاً استثمارياً في الأسواق الناشئة أُغلِق خلال العام الماضي وحده، أي أكثر بـ55 صندوقاً من عدد الصناديق الجديدة، في أسوأ حصيلة تُسجَّل منذ عقدين.

في البرازيل، ثالث أكبر اقتصاد نام، لم يُسجل أي طرح عام أولي منذ عام 2021، ما ترك قطاع صناديق التحوط الذي كان يوماً مزدهراً، يفتقر إلى الفرص الاستثمارية ويكافح لمواصلة نشاطه. أما الصين التي تمثّل أكثر من ربع مؤشر الأسهم العالمية للأسواق الناشئة، فقد باتت تقابل بنفور المستثمرين، بعدما بددت أزمة القطاع العقاري ومخاوف تباطؤ النمو المكاسب القوية التي كانت تحققها السوق. وعلى امتداد العالم، من تركيا إلى الأرجنتين وكوريا الجنوبية، باغتت الاضطرابات السياسية المستثمرين، ودفعَتهم إلى موجات بيع سريعة وعنيفة.

لذلك، عندما حاولت فاندرستيل مطلع العام الماضي استقطاب الاستثمارات مجدداً إلى السندات المحلية في الأسواق الناشئة، لم تجد آذاناً صاغية. وقالت “جميع من عايشوا خيبات العقد الماضي ضاق ذرعهم”.

فكّ الارتباط

لا شيء يضمن أن موجة الصعود الحالية ليست سوى بداية واعدة أخرى قد تنتهي بخيبة أمل. فرغم كل الضجيج الذي يصدر عن تكتل “بريكس” للدفع نحو تبني عملات بديلة، لا يزال مستبعداً أن يفقد الدولار مكانته كعملة احتياطية عالمية في أي وقت قريب. بل على العكس، قد يستعيد زخمه مجدداً ويجذب التدفقات بعيداً عن الأسواق الناشئة. وها هو مؤشر الدولار يتجه لتسجيل أول شهر إيجابي له هذا العام، في وقت تراجعت معظم عملات الأسواق الناشئة خلال يوليو، رغم أن أسهمها لا تزال تمضي نحو مكاسب للشهر السابع على التوالي، في أطول سلسلة ارتفاعات منذ عام 2017.

اقرأ أيضاً: المستثمرون يراهنون على استمرار انتعاش الأسواق الناشئة رغم التهديدات

حتى إذا تواصل هذا الانتعاش، لا يعني ذلك أن المستثمرين سيتخلّون تماماً عن الأسواق المتقدمة. فعلى مدى السنوات الأخيرة، قفزت الأسهم العالمية مدفوعةً بصعود قوي في الأسواق الأميركية، بينما ظلت نظيرتها في الأسواق الناشئة تتعثر منذ أن بلغت ذروتها في عام 2021.

وبحسب بيانات “EPFR Global” التي نقلها “بنك أوف أميركا”، فقد استقطبت الأسهم في الأسواق المتقدمة تدفقات بنحو 342 مليار دولار منذ بداية العام وحتى 23 يوليو، مقارنةً بأقل من 13 مليار دولار للأسهم في الأسواق الناشئة، وهو تقريباً المبلغ ذاته من التدفقات الصافية الذي اجتذبه أكبر صندوقَي مؤشرات مدرجين في الولايات المتحدة يتتبعان أداء أسهم الأسواق الناشئة.

ويكشف هذا التفاوت الهائل في حجم التدفقات عن مدى الضمور الذي أصاب سوق الأصول الناشئة بعد سنوات من نزوح الاستثمارات.

ظهر هذا الانفصال أيضاً في أسواق الدين، حيث لم تعد الأسواق الناشئة تمثل سوى 5% من المحافظ الاستثمارية، بعد ثلاث سنوات متتالية من التدفقات الخارجة التي سحبت 142 مليار دولار من هذه الفئة من الأصول، وفقاً لـ”بنك أوف أميركا”.

لكن المستثمرين بدؤوا بالعودة إلى هذه السوق أيضاً، حيث ضخوا أموالاً في صناديق الدين المخصصة للأسواق الناشئة أسبوعاً بعد آخر طوال الأشهر الثلاثة الماضية، ليبلغ صافي التدفقات هذا العام 31 مليار دولار، بحسب البنك نقلاً عن بيانات “EPFR”. كما سجل صندوق مؤشرات متداول يركز على السندات الحكومية المحلية أكبر تدفق شهري له منذ عام 2019 خلال يونيو الماضي.

ويظهر تحليل الانحراف المعياري (Z-score) الذي يقيس مدى انحراف التدفقات الحالية في الأسهم والسندات عن معدلاتها التاريخية أن وتيرة وحجم التحوّل نحو مراكز أكبر في الأسواق الناشئة لافتان.

فقد قفزت التدفقات الأجنبية نحو الأسهم التايوانية إلى 12.4 مليار دولار في الربع الثاني، أي ما يعادل 1.9 انحراف معياري فوق متوسّط التدفقات الأجنبية خلال السنوات العشر الماضية، بحسب بيانات جمعتها بلومبرغ. كما ضخت الصناديق العالمية 30 مليار دولار في سندات كوريا الجنوبية خلال الفترة نفسها، ما يمثل 2.3 انحراف معياري فوق المتوسط التاريخي للعشر سنوات.

شهدت الشركات ذات الحضور القوي في الأسواق الناشئة هذا الزخم أيضاً. فقد قفزت الأصول المدارة من الصندوق المحلي الرئيسي للأسواق الناشئة التابع لـ””باسيفيك إنفستمنت مانجمنت” إلى أعلى مستوى لها منذ مطلع عام 2015.

وقال براد غودفري، الرئيس المشارك لقسم الأسواق الناشئة في “مورغان ستانلي إنفستمنت مانجمنت”، إن شركته رصدت تجدّداً في اهتمام المستثمرين بالأسواق في طور النمو، عبر مختلف الأصول والمناطق، من العملاء المؤسسيين “وصولاً إلى الأفراد ذوي الثروات الكبرى”.

ليست الاستثمارات فقط بل العملات أيضاً

قال إيان ستالي، الرئيس الدولي للاستثمار في أدوات الدخل الثابت والعملات والسلع لدى “جيه بي مورغان لإدارة الأصول”: “الأسواق الناشئة كانت مهمَلة لسبب وجيه في الفترة الماضية، لكننا بدأنا نرى مؤشرات على تغيّر هذا الاتجاه… الكواكب بدأت تصطفّ.”

يحتفظ صندوق “فرص السندات العالمية” التابع لـ”جيه بي مورغان”، والذي تبلغ أصوله 4 مليارات دولار ويشارك ستالي في إدارته، بأحد أكبر مراكزه الاستثمارية في الأسواق الناشئة منذ تأسيسه قبل أكثر من عقد. وأكد ستالي أن الديون المحلية في الدول في طور النموّ تُعدّ من أقوى رهاناته لهذا العام.

ولا يقتصر الزخم على الدين فقط؛ فمن بين 23 عملة رئيسية في الأسواق الناشئة ترصدها بلومبرغ، سجّلت 18 منها ارتفاعاً مقابل الدولار. وفي أسواق الأسهم، حقق المستثمرون مكاسب بنحو 40% في أوروبا الشرقية، مع صعود الأسهم من سلوفينيا إلى بولندا. يتكرر هذا المشهد في مختلف أنحاء العالم: غانا، زامبيا، كوريا الجنوبية، كولومبيا، باكستان، جميعها شهدت انتعاشاً ملحوظاً في أسواق الأسهم هذا العام مع استعادة المستثمرين لشهيتهم. 

حتى الديون المقوّمة بالدولار التي لطالما شكلت رهاناً أكثر استقراراً من الديون المحلية على مدى العقدين الماضيين، إذ حقق مؤشر للسندات السيادية غير المحوّطة في الأسواق الناشئة عوائد تقارب 300% منذ عام 2003، تواصل مسارها الصاعد. فقد منحت سندات لبنان وبوليفيا والإكوادور للمستثمرين عوائد تجاوزت 30% منذ بداية العام.

حتى الآن، في عام 2025، انقلبت المعادلة. فمع تراجع الدولار، كانت عوائد الديون المحلية أكثر من ضعف ما حققته السندات المقوّمة بالدولار.

وبالنسبة إلى دهاوان، فإن هذا التحوّل يعكس تغييراً أعمق في العقلية الاستثمارية. فبينما كان المستثمرون في السابق يتجاهلون الأصول الناشئة بحجّة أنه “لا بديل عن شراء الأصول الأميركية”، باتوا اليوم يقولون: “لا خيار سوى التنويع على المستوى العالمي”.

شاركها.