الفظائع والأهوال التي ارتكبتها قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي في الفاشر، والموثقة عبر تقارير دولية، تشير إلى أن “مغول السودان” بدأوا حربًا جديدة، وأن الصراع بين قوات الدعم السريع من جهة، وقوات الجيش السوداني من جهة ثانية، ليس فقط بهدف قطع طرق الحرب والسيطرة على المدن الاستراتيجية وتضييق الحصار على الطرف الآخر، ولكنه عنف ممنهج وآلة جبارة للقتل والمجازر ارتكبتها قوات الدعم السريع في الفاشر بدعم من داعميها العرب!!
نعم، فليس خافيًا أن قوات الدعم السريع تتلقى تمويلاً وأسلحة عبر أطراف عربية ودول خليجية معروفة، وهذه جريمة منقطعة النظير، ففي الوقت الذي يجب فيه على الدول العربية والخليجية التدخل لوقف الصراع الدموي العبثي في السودان نراها تغذي الحرب.
المحزن في المأساة أن طرفي الحرب في السودان ربما لا يعرفان أن نحو 41 مليون سوداني يدفعون فاتورة من أرواحهم وكرامتهم ونسائهم وأطفالهم وحياتهم نتيجة هذا الصراع العبثي داخل بلد أفريقي فقير. فالسودان، شئنا أم أبينا، ورغم مساحاته الزراعية وثروته الحيوانية، بلد فقير، ولا يعقل أن يكون جزاء البؤساء من سكانه الذين وقعوا تحت أنياب ذئاب بعضها مأجور من الخارج، أن تفتت وتُدمر حياتهم بهذا الشكل. وليس معقولاً ولا مقبولاً أن تتحول الدول العربية إلى مادة مسرحية مرعبة في العالم كله، فلا توجد منطقة في العالم تحدث فيها هذه الانتهاكات والأعمال الإجرامية، وبها قتل ودمار وخراب، مثلما هو حادث في المنطقة العربية.
علاوة على أن الصراعات العبثية التي اندلعت في غزة، نتيجة قرار فردي غير مدروس من حركة حماس أدت لتكبيد الفلسطينيين ثمنًا فادحًا وعقودًا قادمة ضائعة، أو الحرب في السودان عقب “الربيع الأسود” الذي هبّ عليه، أعادت إلى الذاكرة مشاهد الخيام الشهيرة لآلاف يعيشون في العراء خلال الأربعينيات هربًا من الهاجاناة الصهيونية.
اليوم، الجميع يهرب من شيطان حرب يطارد أرواح الناس لمجرد حسابات خاطئة لدى بعض الخونة والمأجورين.
وتُظهر بيانات منظمة الهجرة الدولية، أن نحو 81 ألف سوداني، نزحوا من مدينة الفاشر ومحيطها بولاية شمال دارفور منذ أواخر أكتوبر، بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة وارتكابها انتهاكات مروعة ضد المدنيين. معظم النازحين افترشوا العراء داخل محلية الفاشر أو لجأوا إلى مخيمات مكتظة في قولو وكورما وطويلة، في ظل انعدام الأمن، ونقص حاد في الغذاء والمياه والرعاية الصحية.
وقد حذرت شبكة أطباء السودان، من تدهور الأوضاع الإنسانية وتفشي سوء التغذية والأوبئة، في ظل غياب شبه تام للمساعدات الطبية، وتعرض قوافل الإغاثة للنهب على أيدي الميليشيات المسلحة، ما جعل الوضع كارثيًا بكل المقاييس.
الأكثر رعبًا ما كشفه مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل الأمريكية، من صور أقمار صناعية تُظهر عمليات دفن جماعي في الفاشر بعد سيطرة قوات حميدتي عليها.
تحليل الصور، أظهر وجود آليات ثقيلة في محيط المستشفى التعليمي ومناطق سكنية مدمرة، مع تغيرات في لون التربة وبقع داكنة توحي بمحاولات لطمس آثار الدماء والجثث. التقرير أكد أن ما يحدث “ليس دفنًا طارئًا”، بل عملية ممنهجة لإخفاء الجرائم ومنع فرق التحقيق الدولية من الوصول إلى الأدلة.
إنها نسخة مكررة من فظائع دارفور في مطلع الألفية، حين أُبيدت قرى كاملة تحت شعارات قبلية وخطابات كراهية، والعالم وقتها اكتفى بالمشاهدة. واليوم، بعد عقدين، تعود المشاهد ذاتها: جثث في الشوارع، أطفال يبحثون عن ذويهم، ونساء يُغتصبن كجزء من أدوات الحرب النفسية.
ووسط هذه الفوضى، يبدو الموقف العربي متناقضًا. فبدل أن تتوحد الجهود لوقف نزيف الدم، تُتهم أطراف عربية بتمويل وتسليح الميليشيات المتورطة في جرائم حرب. إنها مأساة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، تعكس خللاً عميقًا في بنية الوعي العربي الرسمي، الذي بات يرى في الحروب بالوكالة وسيلة لتصفية الحسابات على أراضي الآخرين.
وكما تُركت غزة تواجه مصيرها تحت القصف والتجويع، تُترك السودان اليوم يغرق في الفوضى. الاثنان يتقاسمان المشهد ذاته: خيام تملأ الأفق، أمهات يبحثن عن دواء، وأطفال ينامون في العراء ينتظرون معجزة لن تأتي.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أطلق تحذيرًا صارخًا من أن الحرب في السودان قد “تخرج عن السيطرة”. الفاشر، التي كانت ملاذًا للمدنيين، تحولت إلى مقبرة جماعية، والأُبيض — عروس الرمال — باتت هدفًا جديدًا لطموحات الميليشيات.
لكن ما بين بيانات الإدانة ومشاهد النزوح، لا أحد يتحرك فعليًا. المجتمع الدولي يبدو مشلولًا، والعواصم الكبرى تحسب موازينها الجيوسياسية أكثر مما تحسب عدد الجثث الملقاة في الشوارع من السودانيين.






