كان من المقرر أن يشهد يوم السبت توقيع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية التجارة الحرة الأكبر في تاريخه، وهي اتفاقية “ميركوسور” مع دول أمريكا الجنوبية. ومع ذلك، تواجه رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، تحدياً في اللحظات الأخيرة لإنقاذ الاتفاقية، حيث تضغط لإقناع دول مثل إيطاليا بدعمها، وذلك بسبب مخاوف بشأن التأثير المحتمل على القطاعات الزراعية المحلية. ويمثل هذا التأخير انتكاسة محتملة لجهود الاتحاد الأوروبي لتوسيع نفوذه التجاري العالمي وتقليل اعتماده على الصين والولايات المتحدة.

تستمر المفاوضات حول هذه الاتفاقية التجارية – التي تشمل الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي – منذ 25 عامًا، مما أثار إحباطًا متزايدًا بين دول أمريكا الجنوبية. وقد عبّر الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا عن قلقه من استمرار التأخير، مشيرًا إلى أن هذه هي “اللحظة الحاسمة” لإتمام الصفقة. وفي رسالة متبادلة، أعربت فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي عن أسفهما لعدم الالتزام بالموعد النهائي المحدد سلفًا، وأكدا على مواصلة العمل لإنجاح الاتفاق.

أهمية اتفاقية ميركوسور للاتحاد الأوروبي

يُنظر إلى إقرار اتفاقية التجارة الحرة مع ميركوسور على أنه خطوة مهمة لتعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي كقوة جيواقتصادية عالمية. وتسعى بروكسل إلى إظهار قدرتها على التفاوض على صفقات تجارية مستقلة عن النفوذ الصيني والأمريكي المتزايد في أوروبا. وكانت فون دير لاين قد وصفت الاتفاقية بأنها “لحظة استقلال أوروبي”، وذلك قبل القمة التي تناقش فيها خيارات تمويل أوكرانيا بالإضافة إلى اتفاقية ميركوسور.

يشير تحليل اقتصادي لـ “بلومبرغ إيكونوميكس” إلى أن فشل إقرار الاتفاقية سيؤثر سلبًا على اقتصادات دول ميركوسور بشكل أكبر من تأثيره على الاتحاد الأوروبي، ولكنه سيشكل في الوقت نفسه انتكاسة جيوسياسية للاتحاد الأوروبي في ظل الضغوط المتزايدة من كل من الولايات المتحدة والصين. ويؤكد أنطونيو باروزو، المحلل في بلومبرغ، أن هذا الفشل سيضر بالعلاقات التجارية المستقبلية بين أوروبا والعالم.

التوترات التجارية مع كل من الصين وأمريكا

يعاني الاتحاد الأوروبي من تصاعد التوترات التجارية مع كل من الصين والولايات المتحدة. وتعتبر الصين منافسًا اقتصاديًا رئيسيًا، وتصاعدت الخلافات التجارية بين الجانبين، بما في ذلك فرض رسوم جمركية متبادلة. وقد أعلنت بكين في وقت سابق من هذا العام عن خطط لفرض قيود أكثر صرامة على صادرات المعادن النادرة والمواد الحيوية الأخرى، مما أثار مخاوف بشأن هشاشة الصناعات الأوروبية.

في المقابل، وافق الاتحاد الأوروبي على اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة في الصيف الماضي، والذي وصفه البعض بأنه غير متوازن، حيث وافق الأوروبيون على فرض رسوم بنسبة 15٪ على معظم صادراتهم إلى أمريكا مقابل تعهد أمريكي بإزالة الرسوم على السلع الصناعية الأوروبية.

اتفاقية ميركوسور كبديل استراتيجي

يمكن أن توفر اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وميركوسور بديلاً استراتيجيًا لأوروبا في ظل هذه التوترات التجارية. فهي ستنشئ سوقًا متكاملة تضم أكثر من 780 مليون مستهلك، وستزيل تدريجيًا الرسوم الجمركية على مجموعة واسعة من السلع، بما في ذلك السيارات. والأهم من ذلك، ستمنح الاتفاقية الاتحاد الأوروبي وصولاً أسهل إلى الموارد الهائلة في قطاع الزراعة وغيرها في دول ميركوسور.

وبالنظر إلى هذه المزايا، يشدد مراقبون مثل أغاث ديماراي، الباحثة السياسية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، على أن فشل إبرام شراكة مع ميركوسور سيكون “خطأً فادحًا” لطموحات أوروبا في ترسيخ مكانتها كلاعب اقتصادي عالمي رئيسي.

المخاوف الزراعية تؤجل الاتفاق

حتى الآن، لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من حشد الأغلبية المطلوبة للمصادقة على الاتفاقية، وذلك بسبب المخاوف العميقة بشأن تأثيرها المحتمل على القطاع الزراعي الأوروبي. خلال قمة في بروكسل، شهد القادة الأوروبيون احتجاجات حاشدة من قبل آلاف المزارعين، الذين استخدموا الإطارات المحترقة وألقوا البطاطس تعبيرًا عن معارضتهم للصفقة.

وعقب انتهاء القمة، أعرب القادة عن تفاؤلهم بإمكانية المضي قدمًا في يناير القادم. وصرحت فون دير لاين بأن الانتظار لثلاثة أسابيع إضافية “أمر مقبول” بعد 25 عامًا من المفاوضات، وأكدت ثقتها في التوصل إلى اتفاق نهائي. ومع ذلك، قد يعتمد نجاح الاتفاق بشكل كبير على موقف إيطاليا، حيث ذكرت رئيسة الوزراء جورجا ميلوني أنها بحاجة إلى مزيد من الوقت للحصول على موافقة داخلية.

وتعتبر ميلوني، بحسب بعض الآراء، في موقع تفاوضي قوي، وتسعى إلى استغلال دورها المحوري للحصول على تنازلات إضافية، خاصة لصالح القطاع الزراعي الإيطالي. ويراقب اقتصادات ناشئة أخرى هذا الموقف لتقييم مدى سهولة تمرير أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي في المستقبل.

في سياق متصل، أشار لولا دا سيلفا إلى أن ميلوني أبلغته أنها تحتاج فقط إلى “بضعة أيام أخرى” لاتخاذ قرارها. في حين يتوقع البعض أن تمنح إيطاليا موافقتها في نهاية المطاف نظرًا للفائدة المحتملة لمصدريها، إلا أن آخرين عبروا عن تشاؤمهم.

وفي محاولة لتهدئة المخاوف، وافق البرلمان الأوروبي ودول الاتحاد على توفير حماية إضافية للمزارعين الأوروبيين من أي صدمات مفاجئة في الأسعار أو زيادة حادة في الواردات. ومع ذلك، لم تنجح هذه الجهود حتى الآن في كسر الجمود القائم.

وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، قد يضطر الطرفان إلى إعادة توجيه جهودهما نحو شراكات أخرى. تدرس دول ميركوسور إمكانية إبرام اتفاق تجاري مع الإمارات العربية المتحدة، وتدرس أيضًا شراكات محتملة مع كندا والمملكة المتحدة واليابان. من جهته، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إغلاق صفقة مع الهند، والتي لا تزال قيد التفاوض منذ حوالي عقدين.

وفي ختام زيارته إلى قمة بروكسل، صرح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن “الاتحاد الأوروبي يجب أن يتخذ قراراته الآن إذا كان يريد الحفاظ على مصداقيته في سياسة التجارة العالمية”. ومن المتوقع أن يستأنف الاتحاد الأوروبي مناقشاته حول اتفاقية ميركوسور في 12 يناير، ولكن يبقى مستقبل الصفقة غير مؤكد، ويتوقف على قدرة الأطراف المعنية على التغلب على العقبات السياسية والاقتصادية القائمة.

شاركها.