يُروّج البيت الأبيض لاتفاقه التجاري الجديد مع الاتحاد الأوروبي، بعد توقيع اتفاق مشابه مع اليابان، باعتباره “انتصاراً عظيماً”. إذ ينصّ كلا الاتفاقين على فرض رسوم جمركية بنسبة 15% على معظم الصادرات المتجهة إلى الولايات المتحدة، إلى جانب تقديم تنازلات أخرى، ما يبدو ظاهرياً وكأنه يرفع خطر اندلاع حرب تجارية مفتوحة ويعزز الهيمنة الأميركية. هذا الإعلان دفع الأسواق المالية إلى تسجيل مكاسب فورية.
لكن الحقيقة أن لا شيء يدعو للاحتفال. فكلا الاتفاقين يشكلان خسارةً متبادلةً لجميع الأطراف المعنية. وأفضل ما يمكن التطلّع إليه الآن هو أن تنتقل الإدارة الأميركية إلى أولويات أخرى قبل تفاقم الضرر.
اقرأ أيضاً: من تراجع خوفاً في النهاية لم يكن ترمب.. بل الأوروبيون
من زاوية اقتصادية بحتة، فإن الادعاء بأن الولايات المتحدة خرجت منتصرةً من هذه المفاوضات هو محض وهم. فالرسوم الجمركية هي ببساطة ضرائب. وسرعان ما سيتحمل المستهلك الأميركي القسم الأكبر، وربما الكل، من هذه الزيادات في التكاليف. ولا تتوقف الأضرار عند ارتفاع أسعار الواردات، بل تمتد لتشمل المنتجين الأميركيين المنافسين، الذين سيجدون أنفسهم أقل عُرضة للمنافسة والابتكار، ما يمنحهم مساحة لرفع أسعارهم كذلك.
وبمرور الوقت، ستؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى تراجع مستويات المعيشة داخل الولايات المتحدة. تذكّر دائماً أن الدولة التي تفرض الرسوم الجمركية تكون هي الخاسر الأكبر منها.
وعود الاستقرار.. سراب هش
ربما يمكن تحمل هذه التكاليف على المدى الطويل، طالما أن هذه الاتفاقات تضع حداً للنزاعات التجارية الأخيرة. فقد شددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي أبرمت الاتفاق مع الولايات المتحدة خلال عطلة نهاية الأسبوع، على هذه النقطة في تبريرها لانصياع التكتل للمطالب الأميركية، مُشيدةً بالاتفاق لأنه يعيد الاستقرار ويضفي قدرة على التنبؤ لكل من المستهلكين والمنتجين.
لكن هذا مجرد أمل. فالاتفاقان، مثل الاتفاق الذي أُبرم سابقاً مع المملكة المتحدة، يُنظر إليهما على أنهما مجرد أطر أولية أكثر من كونهما صفقات نهائية.
فعلى سبيل المثال، ماذا يعني التزام اليابان بتمويل صندوق استثماري أميركي يديره البيت الأبيض بالفعل؟ من الصعب تحديد ذلك. (فقد تم تقديمه على أنه “مكافأة توقيع” بقيمة 550 مليار دولار، رغم أن المسؤولين اليابانيين على الأرجح لا يرونه بهذه الطريقة).
غموض التفاصيل يُهدد الثقة الاقتصادية
بموجب الاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من المفترض أن تحصل بعض السلع الأوروبية على إعفاء من الرسوم الجمركية عند دخولها السوق الأميركية. لكن ما هي هذه السلع تحديداً؟ لا أحد يعرف. فلا تزال تفاصيل جوهرية في الاتفاقين، مع اليابان والاتحاد الأوروبي، غير محسومة.
وفي الوقت نفسه، يرى المواطنون في اليابان وأوروبا حكوماتهم وقد رضخت للضغوط الأميركية، ما يزيد من احتمالات تصاعد الرفض السياسي وحالة انعدام اليقين.
اقرأ أيضاً: كيف تحولت الولايات المتحدة إلى “المفترس الأعلى” في التجارة؟
حتى إذا جرى استكمال هذه الاتفاقات، فإن ملفات جديدة ستُفتح بلا شك، إذ إن القضايا المتنازع عليها لا تقتصر على السياسة التجارية وحدها. وإذا قرر البيت الأبيض مستقبلاً تسوية جميع النزاعات من خلال التلويح مجدداً بسلاح الرسوم العقابية، أو باستخدام التعاون الأمني كورقة ضغط، فحينها ستتضح هشاشة ما تصفه فون دير لاين بالاستقرار والقدرة على التنبؤ.
الأخطر من ذلك أن النجاحات التي تروج لها الإدارة الأميركية قد ترسّخ قناعتها بأن الولايات المتحدة بإمكانها فرض الإذعان، بدلاً من السعي إلى شراكة حقيقية، مع دول كانت تُعتبر حليفة في السابق. وإذا صح هذا التوجّه، فإن حالة عدم الاستقرار، التي تهدد التخطيط طويل الأجل والاستثمار والتعاون الدولي على نطاق واسع، لن تكون مجرد أزمة عابرة.
فالقوة المبنية على الاضطراب ليست إلا وصفة للفشل الذاتي. وسيتّضح ذلك، عاجلاً أم آجلاً، بصورة مؤلمة.