رغم مرور واحد وخمسون عاما علي رحيله، مازال الأرث الثقافي للدكتور طه حسين محل جدل، وهو المعمم الكفيف الذي ألقي بحجر  في نهر الفكر الراكد وكانت حياته أشبه بالملحمة الكبري .

اتفق معه كثيرون واختلف معه أخرون، ورغم المعارك الفكرية والأختلافات  في الرؤي والتي شغلت الرأي العام ، لم ينكر أحد ريادته لحركة التنوير في مصر والمنطقة العربية، فهو  رجل جرئ العقل مفطور علي المناجزة والتحدي، استطاع نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها الي مستوي ارحب ،فقد كان يؤمن بانه صاحب رسالة تقوم علي تحرير الفكر وحرية الراي والدعوة للتجديد.

ورغم أزهريته وشق طه حسين  العصا علي دراسته الأزهرية ، التي لم تتعدي الأربعة أعوام ووصفها كأنها أربعون عاماً بالنظر إلى عقم المنهج وأساليب التدريس، ولم يعد يطيق المكوثَ فيه، فكانت مجادلاته التي تنبا بعبقرية فريدة بمثابة معارك بين التجديد والتقليد، وأصبح المعمم الكفيف مصدرسخرية ونقد من أقرانه وأساتذته الأزهريين الذين لقبونه بالأعمي.

تمرد طه وترك  دراسته بالأزهر وإلتحق بالجامعة المصرية ولم يكتف بل إنتسب لمدرسة ليلية لتعلم الفرنسية، وتفوق علي نفسه ونال أول دكتوراة عام1914وترشح لبعثة علمية بفرنسا.  

وقاد عميد الأدب العربي نهضة أدبية بعد عودته متشبعا بالمناهج العلمية الحديثة التي تلقاها من أساتذته الغربيين والمستشرقين ، ليقود ثورة فكرية على أساليب التعليم في مصر، وتجرأ على تحريك الساكن الثقافي وكسر التقاليد الجامدة، وأستطاع أن يطرق باب المسكوت عنه ويحرك المياه الراكدة  في مساحات من الوعي  لم يكن لأحد أن يجرؤ علي الأقتراب منها .

فقد أعتاد طه تجربة الرأي وإعمال العقل ببراهين أستنتاجية رافضا التسليم المطلق ودعا إلي البحث والتقصي بل وصل إلي الشك في بعض المسلمات وهو ليس الشك العقيم ، إنما الشك الذي يدفع للتامل و يثير العقل ويطرح تساؤلات فيفتح آفاقا للفكر.

ونجح صاحب الأيام  في إدراج المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلما من قبل أن يطبق فيها، وبعث الحياة في الساكن، وأثارت ارائه الكثيرين من المحافظين، لكن لم يبالي المستنير التنويري بهذة الثورة وأستمر في دعوته للإصلاح.

ومنطقة بين تجاوز الخطوط الحمراء والحداثة ،خاض  فيها د. طه حسين  معارك ضارية مدافعا عن رسالة التجديد، وجاء كتابه في الشعر الجاهلي ليثير ضجة في الأوساط الفكرية الدينية، وأتسمت تلك المواجهات بطابع الشراسة، وأنتقل الصراع من ساحة الفكر ليغدو صراعاً سياسياً وعقائدياً وأجتماعياً وفلسفياً ، ومواجهة بين التراث والمعاصرة وتمت مصادرة الكتاب.

ودفع طه حسين ثمن إعادة صياغته الوعي العربي المعاصر ،وتحديد ملامحه وكانت ضريبة قناعاته الفكرية ونضاله التنويري المستند علي البحث والتحليل باهظة ولم تقف عند حد المنازلات الأدبية، بل أنتقلت إلى أروقة المحاكم بتهمة الكفر والإلحاد، وتعرض للعزل من المنصب والتنمر والحصار بمنزله ومحاولة الأعتداء الجسدي عليه والطعن في وطنيته ولم تكن تهدا عاصفة حوله حتي تثور اخري.

و تحول رويدا رويدا  من رمز إلي أسطورة وواحدا من أهم حراس الهوية المصرية ،صاحب حديث الأربعاء حديث الخاصة ،الذي سرعان ما صار حديث العامة ، أحد عمالقة الفكر منارة العلم الذي وأن خبا ضياء عينيه إلا أن بصيرته قد أضاءت لنا ظلام جنبات الثقافة العربية.

وأتساءل هنا في ظل التراجعات  الفكرية والأضمحلال الثقافي والأستقطاب التي تتسم بها المرحلة المتوترة من التاريخ العربي المعاصر ماذا لو ظهر لنا طه حسين أخر  في هذة المرحلة المازومة.

شاركها.