Site icon السعودية برس

“هائج في غابة الشرق الأوسط”.. نتنياهو إلى أين؟

خلال العام الماضي، اعتاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الانتشاء بكل ما يعتبره انتصارا -وإن لم ينل ذلك باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) يحيى السنوار– وبات يؤمن أنه في “مهمة إلهية” لحماية الشعب اليهودي تستدعي إشعال حرب شاملة لا يمكن التنبؤ بتبعاتها على المنطقة أو حتى على إسرائيل ذاتها.

وبكثير من المبالغة، يستحضر رئيس الوزراء الإسرائيلي النصوص الدينية في خطاباته مبررا نزوعه المفرط في الذهاب إلى تلك الحرب، وقد حسم أمره حين اعتلى منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا، متقمصا شخصية رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل حين أخبر البريطانيين: “ليس لدي ما أقدمه لكم سوى الدم، والدموع، والعرق، والتعب”.

خاطب نتنياهو من بقي من الحضور بعد مغادرة وفود دبلوماسية القاعة مع بدء كلمته يوم 27 سبتمبر/أيلول الماضي، معلنا أن إسرائيل تخوض حربا وجودية، وعليه أن يتخذ قرارات حاسمة في مواجهة هذه الحرب.

واستحضر هذه المرة من التوراة ما يدعم رؤيته للمرحلة قائلا: “نحن اليوم أمام الخيار نفسه الذي وضعه موسى أمام بني إسرائيل منذ آلاف السنين… إما أن نورث الأجيال القادمة بركة أو لعنة.”

ولتعزيز موقفه، عرض نتنياهو خريطتين: إحداهما تحت عنوان “البركة” تُظهر إسرائيل تعيش في سلام مع بعض جيرانها العرب -وفق تقديره- بينما تحمل الخريطة الأخرى عنوان “اللعنة”، حيث تجسد إيران رأس ما أطلق عليه “محور الشر” الذي يضم العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، متعهدا بهزيمة “هؤلاء الأعداء”، ومؤكدا أن خياره سيؤدي إلى مستقبل مشرق من السلام والازدهار.

لم تشر خريطة نتنياهو في الأمم المتحدة إلى وجود أي دولة فلسطينية (غيتي)

فخ نيويورك

وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، فإن الأمور كانت تسير في الاتجاه الصحيح نحو انفراجة قد تمنع اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، قبل أن يقرر نتنياهو مفاجأة الجميع بنسف المبادرة الفرنسية-الأميركية لوقف إطلاق النار، تماما كما فعل قبل أشهر عندما أمر باغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس إسماعيل هنية، لكن هذه المرة، ومن قلب نيويورك، أصدر أوامره باغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله.

وبقرار الاغتيال، يبدو أن نتنياهو كان يضمر فخا للجميع، إذ كشف تصريح زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد أنه أبلغ واشنطن قبيل سفره إلى نيويورك بالموافقة على الهدنة لمدة 21 يوما مع حزب الله.

وصدم نتنياهو الأميركيين بتبنيه نبرة حادة خلال خطابه في الأمم المتحدة، وتوعده بالاستمرار في قتال حزب الله، بدلا من تقديم إشارات حول المبادرة الداعمة لوقف إطلاق نار، كما كان متوقعا، حسب الصحيفة.

وقبيل خطابه، توافر مؤشرات إيجابية من جميع الأطراف التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، فقبل يوم من حادثة اغتيال نصر الله وتحديدا في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، أخبر رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في نيويورك أن حزب الله وافق على الصياغة المتعلقة بالهدنة المقترحة، بدوره، أبلغ ميقاتي المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين بالأمر، كما أشار الوزير اللبناني في خطابه بالأمم المتحدة إلى دعم الهدنة بين الطرفين.

ومنذ وصوله إلى نيويورك، كان نتنياهو يسير في اتجاه يتعارض مع أي هدنة ممكنة، فقد أعطى الأمر باغتيال قائد القوة الجوية بحزب الله محمد سرور، وبدد آمال التوصل إلى هدنة مع إعطائه الضوء الأخضر لاغتيال نصر الله من قاعة الأمم المتحدة، متعهدا بالقضاء على ما سماه “محور اللعنة”.

وتبين أن خطابه في الأمم المتحدة لم يكن مجرد استعراض تقليدي، بل كان تجسيدا لنهج اختاره وقرر المضي فيه، فقد خدع الرئيسين الأميركي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، اللذين توقعا أن يتضمن حديثه إشارة إلى تهدئة، قبل أن يباغتهم بـ”فخ نيويورك”.

أعطى نتنياهو الأمر باغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله خلال وجوده في نيويورك (رويترز)

تدمير النووي أو حسرة الأجيال؟

ويترقب العالم رد إسرائيل على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير، وسط تحليلات وتكهنات حول نية نتنياهو، مما يعمق حالة الغموض والقلق في المنطقة.

وتعتبر التحديات التي تواجه إسرائيل في الآونة الأخيرة “محورية في تحديد أمنها الإستراتيجي”، إذ يرى الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات بالجيش الإسرائيلي عاموس يادلين -في مقالة عبر موقع القناة الـ12 الإسرائيلية- أن الهدف الرئيسي لإسرائيل الآن هو مواجهة التهديد الإيراني، ويتعين عليها الرد بقوة بعد هجومها على تل أبيب، بما يعزز قدرة الردع ويمنع تكرار الحادثة.

بينما يُعبر المحلل العسكري الإسرائيلي رون بن يشاي عن القلق من أن الإستراتيجية المتمثلة في خوض حرب طويلة على عدة جبهات لن تؤدي إلى “نصر مطلق حسبما يرغب رئيس الحكومة”.

بدوره، يرى يارون فريدمان، معلق الشؤون العربية بصحيفة يديعوت أحرونوت، أن إسرائيل الآن أمام مفترق طرق تاريخي، فقد تجنبت مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية على مدى سنوات طويلة لأسباب رئيسية بينها:

  • القلق من ترسانة حزب الله الصاروخية التي كانت سوف تُستخدم في رد انتقامي على إسرائيل.
  • غياب الدعم الأميركي لمثل هذا الهجوم، مما يزيد من صعوبة اتخاذ القرار دون غطاء سياسي أو عسكري كامل.
  • نقص في القنابل القادرة على اختراق المنشآت المحصنة، مما يحد من فعالية أي عمل عسكري محتمل.

ووفقا لفريدمان، انتفت الأسباب التي كانت تعوق اتخاذ القرار بتدمير البرنامج النووي الإيراني، مما يجعل اللحظة الحالية مثالية لتنفيذ هذا الهجوم، مضيفا أن تدمير المفاعل النووي في العراق عام 1981 والمفاعل السوري عام 2007 كان حاسما، ولولا ذلك، لكانت الدولتان تمتلكان اليوم أسلحة نووية. وتساءل فريدمان “ماذا لو حصلت إيران على سلاح نووي؟ ستحظى عندئذ بحصانة ضد أي هجوم، كما هي الحال مع كوريا الشمالية، وعلى إسرائيل التعايش مع تهديد وجودي دائم”.

يعتقد فريدمان أن الهجوم الصاروخي الإيراني على تل أبيب قد منح إسرائيل فرصة ذهبية للرد على طهران. ويرى أن تراجع حزب الله، مع تفوق سلاح الجو الإسرائيلي وتوفر قنابل قادرة على اختراق التحصينات، فضلا عن الدعم الأميركي، كلها عوامل تدعو إلى استغلال اللحظة، مشيرا إلى أن تفويت هذه الفرصة قد يؤدي إلى ندم كبير، “بل إلى حسرة عميقة في قلوب الأجيال”.

إيران أطلقت مئات الصواريخ على إسرائيل مما تسبب في إصابات بشرية وأضرار مادية (الفرنسية)

“هائج بلا أفق”

“يظهر نتنياهو في هذه المرحلة الحرجة وحيدا أكثر من أي وقت في حياته”، متحملا أعباء عام من الصعاب “في مواجهة العالم”، حسبما وصفته مجلة “مشبخاه” الحريدية قبل أيام.

وإلى جانب شعوره بالوحدة، تقول المجلة إن نتنياهو قد أصبح مختلفا، فهو يسعى إلى إظهار قوته، لتحقيق “الانتصار الذي وعد به منذ البداية”، على حد قوله.

وتعزو المجلة هذه الجرأة التي يظهر بها رئيس الوزراء إلى عدة أسباب بينها:

  • هناك مؤشرات على عدم رغبة الرئيس الأميركي جو بايدن في معاقبة إسرائيل بنهاية ولايته كما فعل باراك أوباما عام 2016 حين امتنع عن التصويت في مجلس الأمن ضد قرار رقم 2334 الذي كرر مطالبة إسرائيل بوقف تمددها الاستيطاني بالضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
  • يستغل نتنياهو الصمت الأميركي الحالي، مواصلا تحركاته بلا تردد، وبغض النظر عن مواقفهم تجاه أفعال إسرائيل، فإن المرشحين للانتخابات القادمة، كامالا هاريس ودونالد ترامب لا يملكان في هذه المرحلة أكثر من القدرة على التعليق، وفقا للمجلة.
  • يعمل نتنياهو على إثبات صحة خياراته عبر أفعاله، معتقدا أن النتائج تتحدث عن نفسها، وهذا ما يدفعه للمجازفة في اتخاذ قرارات غير مبالٍ بتبعاتها.

قائد حرب مراوغ

وفي قراءة شخصيته الجديدة، تقول المجلة الإسرائيلية إن مواقفه في الخفاء أكثر تعقيدا، فنتنياهو يتبع أسلوب “نعم، ولكن”، حيث يظهر مرونة تجاه أي صفقة تؤدي إلى حل، لكنه في الوقت نفسه يفرض شروطا تجعلها مستحيلة، وبهذه الطريقة، يتمكن من مواجهة الضغوط، خاصة من الولايات المتحدة، من دون أن يعارض أي مبادرة من حيث المبدأ.

يقول نتنياهو إنه لو قدم أي تنازلات خلال هذه المرحلة، لحظي بتصفيق إعلامي، وربما أصبح محبوبا في أوروبا، لكنه يعتبر الأمر “خيانة” لما أوكل إليه من قبل “الشعب اليهودي والتاريخ”.

وترى المجلة الإسرائيلية أن الواقع الجديد الذي تعيشه إسرائيل فرض على نتنياهو التحول من زعيم سياسي إلى قائد حرب.

يعتقد نتنياهو أنه القائد الأكثر حسما، وفق ما صرح به للمجلة، ناسبا الفضل لنفسه في توجيه الضربات “القاتلة” على جبهتي غزة ولبنان، ويؤكد ضرورة الظهور بحزم حتى في التعامل مع الحلفاء، مثلما رد بإدانة غير معتادة على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما أعلن حظر تصدير أسلحة لإسرائيل، حين تخلى عن بروتوكولات الدبلوماسية التقليدية، مستنكرا الحظر الذي فرضته فرنسا، ومعتبرا القرار عارا، إذ قال لماكرون: “ستنتصر من دونكم، لكن عاركم سيستمر طويلا”.

هجوم إيران الصاروخي جاء “ردا على اغتيال إسماعيل هنية وحسن نصر الله” (الفرنسية)

“غابة الشرق الأوسط”

وحين سُئل عن الأسرى في غزة والاحتجاجات المطالبة بوقف الحرب، أخبر نتنياهو المجلة أنه يتجاوز الضغوط التي يتعرض لها بابتعاده عن وسائل الإعلام، فعلى عكس الماضي الذي كان يحب فيه الظهور الإعلامي، فإنه الآن لا يشاهد التلفزيون أو يتابع آراء المحللين.

وتتساءل المجلة عما إذا كان هذا التوجه يمثل تغييرا حقيقيا في نهج نتنياهو أم أنه مجرد رد فعل مؤقت بسبب حالة الطوارئ الحالية.

وبالنسبة للداخل الإسرائيلي والدعوات المتزايدة لتشكيل حكومة وحدة في ظل الظروف الراهنة، يعتبر نتنياهو أن هذه الدعوات ليست سوى محاولة للإطاحة بحكومته، وأن هناك من يسعى لإقصاء وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من أجل “طعن حكومته في الظهر لاحقا”.

حاليا، يركز نتنياهو على ترسيخ قناعته بصواب إستراتيجيته، مشددا على أن هذه المرحلة ليست مجرد اختبار للقوة العسكرية، بل هي أيضا “امتحان لقيادة إسرائيل” في واحدة من أكثر فتراتها تعقيدا. ويؤكد أن القرارات التي يعتزم اتخاذها الأشهر المقبلة “قد تكون حاسمة في إعادة تشكيل المنطقة بأكملها”، وفقا لما صرّح به.

ومقارنة برؤساء الوزراء السابقين، يعتبر نتنياهو أن أسلافه فشلوا في الاستمرار في مواقعهم لفترات طويلة، بما في ذلك نفتالي بينيت ويائير لبيد وإيهود باراك، قائلا إنهم لم يتمكنوا من تحمل الضغوط السياسية، فقد استقال إيهود أولمرت بعد فشله في حرب لبنان الثانية 2006، كذلك مناحيم بيغين، الذي أقر في لحظة ضعف بعجزه عن مواجهة نتائج حرب لبنان الأولى عام 1982.

تعترف المجلة أن نتنياهو في وضع سياسي حرج، إذ يتعين عليه تحقيق توازن بين البقاء في منصبه والوفاء بوعوده، ورغم الانتقادات التي يتعرض لها، فإنه لا يزال في موقع القيادة.

ويتبنى نتنياهو نهجا جديدا يعتبر فيه القوة هي مفتاح البقاء في “غابة الشرق الأوسط”، مظهرا التزامه بالدفاع عن إسرائيل في “معركتها الوجودية”، معتمدا وصايا الحاخامات، ومصورا نفسه ربانا لسفينة تتلاطمها الأمواج، لا يكترث بالمخاطر التي قد تؤدي إلى فوضى عارمة في الشرق الأوسط وربما العالم.

Exit mobile version