في غضون أيام، انتقل المصور الفلسطيني أنس فتيحة من نازح يبحث عن رغيف الخبز لأطفاله وسط الحصار والجوع في غزة، إلى هدف مباشر لحملة دعائية إسرائيلية تصفه بـ”الناشط المتنكر” و”مهندس الدعاية لحماس”.
وفي الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 2.4 مليون إنسان في قطاع غزة على وقع الجوع والإبادة، أصبحت عدسات المصورين المستقلين نافذة شبه وحيدة توثق تفاصيل الكارثة المتصاعدة، غير أن هذه العدسات التي تحظى بتفاعل دولي متصاعد، تحولت إلى هدف للحرب الدعائية المضادة.
فقد شنت مؤسسات إسرائيلية، بينها وزارات وهيئات رسمية وصحف أجنبية ومراكز بحثية، حملة تشكيك ممنهجة، تطعن في مصداقية المصورين الفلسطينيين، وتتهمهم بتلفيق المشاهد أو تضخيمها، وهو ما انعكس في تبني روايات رسمية تدعي أن المشاهد “مفبركة” أو “منسقة”.
في هذا التقرير، تفتح الجزيرة عبر فريق “الجزيرة تحقق” ملف الهجوم على أنس فتيحة، وتعيد بناء القصة منذ بدايتها، ساعية إلى الإجابة عن الأسئلة التالية: من يقف وراء حملة التحريض ضده؟، ولماذا الآن؟ وهل صور فتيحة فعلا مشاهد مفبركة كما تدعي الرواية الإسرائيلية؟، أم أنه وثق ما لا تريد إسرائيل أن يراه العالم؟
من خلال تتبع الحسابات الأساسية التي أطلقت المزاعم، وتحليل التقارير الأجنبية التي تبنتها، وفحص الصور واللقطات المثيرة للجدل، نتتبع في هذا التقرير كيف تحولت الكاميرا من أداة توثيق إلى هدف مباشر للاحتلال.
صور تتصدر العالم
في 3 و5 أغسطس/آب الجاري، نشرت صحيفتا “زود دويتشه” و”بيلد” الألمانيتان تقارير تشكك في مصداقية الصور الإنسانية الملتقطة من غزة، معتبرة أنها تثير مشاعر الملايين وتؤثر على الرأي العام والسياسات الدولية، مما يفتح باب التساؤل: هل صنعت هذه الصور عمدا لتخدم دعاية حركة حماس؟
صحيفة “بيلد” الألمانية عنونت تقريرها الهجومي بجملة صريحة وهي “هذا المصور يروج لدعاية حماس”، في إشارة إلى أنس زيد فتيحة، مصور وكالة الأناضول التركية في غزة، الذي وثق بعدسته مشاهد الازدحام أمام نقطة لتوزيع الطعام دخل القطاع.
وكان المقصود بهذه العبارة أنس زيد فتيحة، مصور وكالة الأناضول التركية في غزة، الذي اشتهرت صوره مؤخرا، ومنها صور طوابير الطعام الطويلة أمام نقطة توزيع الإغاثة، والتي لاقت تفاعلا دوليا واسعا، وشوركت من قبل وكالات ومنصات عالمية.
غير أن “بيلد” ذهبت إلى شيطنة المصور، مدعية أن فتيحة يتعمد إخفاء بعض الصور التي التقطها، وأنه لم يرد على استفساراتها الصحفية، كما وصفته الصحيفة بأنه “ناشط سياسي متنكر في زي مصور صحفي”، وقالت إنه يسعى إلى “تحرير فلسطين” ويعمل ضمن أجندة حركة حماس، ويتعاون مع حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تصفه الصحيفة بأنه “يكن عداء لإسرائيل”.
كما اتهمت الصحيفة وكالات دولية -لم تسمها- بأنها تواصل استخدام صور فتيحة، رغم ما وصفته بـ”تحيزها أو إعدادها مسبقا”.
هذه المزاعم فتحت الباب لمزيد من التساؤلات حول دوافع الاستهداف المنهجي للمصورين الفلسطينيين، خصوصا في وقت تتعاظم فيه الحرب على السردية، وتنتقل المواجهة من الأرض إلى الفضاء الرقمي، حيث تخشى الصورة أكثر من الرصاصة.
حملة منظمة تتجاوز الصحف
لم يقتصر الاستهداف على الصحافة الألمانية، فقد شاركت صحف ومواقع إسرائيلية في الترويج للتقرير، وأشارت إلى أن توقيت نشره يتزامن مع فشل الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية وتصاعد المطالب الدولية بالاعتراف بدولة فلسطين “حسب تصريحها”.
وسرعان ما انخرطت حسابات رسمية إسرائيلية، بما في ذلك صفحات وزارات وسفراء وقنصليات، في إعادة نشر الادعاءات، معتبرة أن صور فتيحة تمثل “سيطرة حماس على الإعلام في غزة”.
بل إن وزارة الخارجية الإسرائيلية نشرت صورا للمصور، وادعت أن ما يُعرف بـ”بالييود” (Pallywood) لم يعد ظاهرة هامشية، بل “تيارا مؤثرا في التغطية الإعلامية”، في تلميح إلى أن المصورين الفلسطينيين “يختلقون المشاهد أو يضخمونها”.
كما انضمت “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) إلى الحملة، وروجت للرواية ذاتها عبر تقارير لا تستند إلى أي أدلة تحقق مهني، بل استشهدت بالصورة المتداولة ذاتها كمرتكز لتعميم سرديتها.
An investigation by @BILD reveals that a staggering percentage of images coming out of Gaza are staged by Hamas-aligned photographers and sold to Western media outlets.
This builds on @ncri_io‘s earlier report exposing the media’s heavy, undisclosed reliance on Hamas-linked… https://t.co/sCa48bBQmF
— Gaza Humanitarian Foundation (@GHFUpdates) August 5, 2025
Today it was revealed that TIME’s photo from Gaza was completely staged.
German @BILD confirmed what many of us already knew: the angles were always too narrow.@TIME – do basic journalistic standards no longer apply? pic.twitter.com/fQG8QNTnD1
— David Saranga (@DavidSaranga) August 6, 2025
Beware of fake news.
A joint investigation by @SZ and @BILD reveals how Hamas uses “Pallywood”, staged or selectively framed media, to manipulate global opinion.At the center is Anas Zayed Fteiha, a Palestinian photographer for Anadolu and an open Israel- and Jew-hater, whose… pic.twitter.com/MrBfvylwCi
— Israel Foreign Ministry (@IsraelMFA) August 5, 2025
An investigation by @BILD reveals that a staggering percentage of images coming out of Gaza are staged by Hamas-aligned photographers and sold to Western media outlets.
This builds on @ncri_io‘s earlier report exposing the media’s heavy, undisclosed reliance on Hamas-linked… https://t.co/sCa48bBQmF
— Gaza Humanitarian Foundation (@GHFUpdates) August 5, 2025
رد المصور وتفنيد الادعاءات
تواصل فريق “الجزيرة تحقق” مع المصور الفلسطيني أنس فتيحة للرد على التقارير الألمانية، قائلا: “لا أجد ما أعلق عليه، أنا صحفي حر ومهمتي الأساسية توثيق الحقيقة التي لا تحتاج إلى فبركة، لكن الزيف الحقيقي هو ما تروجه بعض وسائل الإعلام”.
وشدد على أنه لا يعمل لصالح أي جهة سياسية، بل يعمل كمصور صحفي مستقل لصالح وكالة الأناضول التركية، ويوثق “القصص الإنسانية الناتجة عن العدوان، وعلى رأسها المجاعة”.
ونفى فتيحة بشكل قاطع ادعاء صحيفة “بيلد” أنها حاولت التواصل معه، قائلا: “لم يراسلني أحد لا عبر البريد ولا الهاتف ولا أي وسيلة. وإذا كانوا صادقين فليعرضوا ما يثبت ذلك”.
أدلة مصورة تروي الحقيقة
خلافًا لما رُوج، نشر فتيحة على حسابه في إنستغرام مشاهد وزوايا متعددة من الحدث ذاته الذي استُخدم ضده، تظهر بوضوح اصطفاف الأهالي حاملين أواني فارغة قبل توزيع الطعام، وهو ما يدحض مزاعم “الإخراج المسبق” أو “المشهد المصطنع”.
وتُظهر مشاهد أخرى وثقها فريق “الجزيرة تحقق” أن المشهد حقيقي، ويعكس حالة طوارئ غذائية، إذ يتكرر توافد الأهالي -وغالبيتهم من النساء والأطفال- إلى نقاط الإغاثة قبل وصول المساعدات.
كما وثقت وكالة الأناضول عبر تقرير مصور في 24 يوليو/تموز، جولة ميدانية لأنس فتيحة، يتنقل فيها بين أنقاض دير البلح، ويوثق معاناة النازحين، ومركزا لتوزيع الطعام، إلى جانب مأساة أسرته التي نزحت من الشمال حتى وصلت إلى دير البلح.
وباستخدام تقنيات البحث العكسي، تمكن الفريق من تحديد موقع التصوير، وتبين أن الصور التقطت من مطبخ “خولة البدري شاهيزئي” التابع لأكاديمية خير النساء – باكستان، وهي مؤسسة خيرية توثق أنشطتها عبر حساب رسمي في إنستغرام، وتقدم وجبات للمحتاجين في شمال ووسط القطاع.
تضليل ومعلومات مغلوطة
رصد فريق “الجزيرة تحقق” حملة تضليل رقمية على منصة “إكس”، روجت لادعاءات تقول إن أنس فتيحة هو صاحب صورة غلاف مجلة “التايم” التي نُشرت مطلع أغسطس/آب الجاري، وجنت تفاعلا عالميا واسعا، كما روجت ادعاءات أخرى تظهر أن المشهد مصطنع ولا توجد مجاعة حقيقية.
The cover of TIME magazine was staged. Why did they have to stage a photo of children starving? You’ve been played. pic.twitter.com/kkpvbcMYn9
— Eve Barlow (@Eve_Barlow) August 5, 2025
The lie: Construction of the lie: pic.twitter.com/cXMjA6g66J
— Dr. Eli David (@DrEliDavid) August 6, 2025
ونشطت هذه الحملة على منصة “إكس”، إذ علق الحساب الإسرائيلي (@VividProwess) على الصور، قائلا: “لقد تم الكذب عليك، لم يكن هناك أي مجاعة في غزة، كل هذه أكاذيب، وكل الصور التي رأيتموها لأطفال يتضورون جوعا هي صور مفبركة”.
You’ve been lied to. There was never any starvation in Gaza. It is all lies made to make you believe Israel is the bad side. Every photo you saw of starving children is staged. The media believed them and radicalized tens of millions of people around the world.
It was all lies. pic.twitter.com/AqzYe6852G
— Vivid.🇮🇱 (@VividProwess) August 6, 2025
تفنيد صورة غلاف “تايم”
أجرينا بحثا عن مصدر الصورة الأخيرة في الحملة، وتتبع أرشيف الصحفي في الوكالة التي ينشر لها، وتبين أن هذه الادعاءات كاذبة واستخدمت في سياق خاطئ، إذ أن فتيحة لم يكن من التقط الصورة.
وتظهر معلومات صورة غلاف “تايم” المنشورة بتاريخ 1 أغسطس/آب الجاري على منصة “إكس”، أن الصورة التقطها المصور الفلسطيني علي جاد الله، والذي فقد العديد من أفراد عائلته بمن فيهم والده و4 من أشقائه جراء قصف إسرائيلي طال منزلهم شمال غزة.
“When children are starving, the enemy is hunger.”
TIME’s new cover goes inside the crisis unfolding in Gaza—and what needs to happen next https://t.co/95KdsdroaN
Photograph by Ali Jadallah—Anadolu/Getty Images pic.twitter.com/l65mDBM173
— TIME (@TIME) August 1, 2025