Site icon السعودية برس

متداولو النفط في حالة تيه: السوق بلا بوصلة بعد توقف بيانات الحكومة الأميركية

ريك باندازيان يتداول في سوق النفط، ويكتب نشرة دورية عما يسميه “فرص التداول غير المتماثلة”، كما يبث برنامجاً على “يوتيوب” يقدم فيه نصائح حول كيفية تحقيق أرباح في الأسواق، وذلك من مكتبه الكائن في محطة إطفاء قديمة حُولت إلى مكتب تداول.

المصرفي الاستثماري السابق والمحلل الذي يقدم المشورة للمؤسسات المهتمة بالشراء، والذي يمتلك خبرة تمتد إلى 25 عاماً، يتمتع بحضور هادئ وواثق، ويتحدث بخبرة في القضايا المعقدة المتعلقة بالتداول. لكن عندما علم مقدم ومعد برنامج “أوف سايد ماكرو” (Offsides Macro) أن بيانات حكومية أساسية يعتمد عليها متداولو النفط لن تُنشر أثناء الإغلاق الحكومي، كانت ردة فعله “اللعنة، وماذا الآن”؟. 

توقف بيانات لجنة تداول السلع الآجلة

ليس باندازيان وحده من شعر بفقدان تقرير التزامات المتداولين (COT) الأسبوعي. فمنذ أن بدأت لجنة تداول العقود المستقبلية للسلع   (CFTC) بنشر نسختها الحالية من تقارير (COT) عام 2009، أصبح المشاركون في الأسواق من المستثمرين الأفراد إلى كبرى شركات التداول، يعتمدون عليها كمصدر بيانات فريد لقياس معنويات السوق.

إذ تُعد هذه التقارير باستخدام معلومات سرية حول مراكز التداول لا يمكن الوصول إليها سوى من قبل الجهات التنظيمية، ما يجعل من المستحيل تقريباً إعادة إنتاجها بدقة.

تُغطي تقارير (COT) عدداً من الأسواق، من بينها السوق الأكثر سيولة وهو سوق النفط. وتحتوي البيانات على تفاصيل دقيقة توضح من يشتري ومن يبيع، وتُميز بين صناديق التحوط ومديري الأموال من جهة، واللاعبين التجاريين مثل المنتجين والمصافي من جهة أخرى، بالإضافة إلى المشاركين الأصغر مثل باندازيان. ويعتمد منتجو النفط على هذه البيانات لتوجيه استراتيجيات التحوط، في حين يستخدمها المتداولون المضاربون لمعرفة تحركات “الأموال الذكية” واتخاذ مراكز معها  أو ضدها عندما تظهر التوجهات المفرطة في السوق.

السوق بلا إشراف

بعد انقطاع هذه البيانات الحيوية، قد يصبح المتداولون أكثر حذراً ويقلصون مراكزهم لتقليل المخاطر، بحسب ما يقول الخبراء. فالسوق ذات السيولة المنخفضة تكون أكثر عرضة للتلاعب، إذ يمكن حتى للصفقات الصغيرة أن تُحدث تحركات كبيرة في الأسعار.

لكن، وعلى خلاف فترات انخفاض أحجام التداول الأخرى مثل فترات الاضطراب السياسي أو العطلات، فإن الذراع التنفيذية للجنة تداول العقود المستقبلية للسبع (CFTC) قد شُلت هى الأخرى بسبب الإغلاق الحكومي، ما يجعل السوق فعلياً بلا إشراف حكومي.

هذه ليست هذه المرة الأولى التي يُجبر فيها المتداولون على العمل دون هذه البيانات، لكنها على الأرجح ستكون الأطول. فبعد الإغلاق الحكومي الذي استمر 35 يوماً عام 2018، استأنفت اللجنة نشر تقارير التزامات المتداولين بالترتيب الزمني، بمعدل تقريرين إلى ثلاثة أسبوعياً، ما يعني أن الأمر قد يستغرق عدة أسابيع حتى يتمكن المتداولون من اللحاق بالبيانات بعد إعادة فتح الحكومة.

“نجمة الشمال” للمتداولين

بالنسبة لريك باندازيان، الذي يفحص تقارير يوم الجمعة بدقة بحثاً عن مراكز مفرطة في التفاؤل أو التشاؤم ليقوم بتكوين رهانات معاكسة لتحقيق أرباح عند تصحيح السوق، فإن “هذه البيانات هي دوماً نجمة الشمال بالنسبة لي”.

ورغم صعوبة تحديد مدى اعتماد صناديق التحوط على بيانات (COT) بدقة، فإن نحو نصف قرارات التداول التي تتخذها يمكن تفسيرها بأنماط الأسعار التاريخية الواردة في هذه التقارير، وفقاً لما قاله إيليا بوشوييف، الشريك الإداري في “بنتاثلون إنفستمنتس” (Pentathlon Investments) والأستاذ في جامعة نيويورك.

وقال بوشوييف: “الأمر يشبه لعب البوكر، تحاول أن تتسلل لتنظر إلى أوراق خصمك، فإذا عرفت ما يملكه فستكون لديك أفضلية هائلة”.

أطول إغلاق حكومي في تاريخ أميركا

مدة هذا الإغلاق الذي بدأ في الأول من أكتوبر وأصبح الأطول في التاريخ، تمثل تحدياً غير مسبوق، خصوصاً للمستثمرين في أسواق السلع الأمريكية مثل خام غرب تكساس الوسيط والغاز الطبيعي، بحسب داريل فليتشر، المدير الإداري للسلع في “بانوكبورن كابيتال ماركتس” (Bannockburn Capital Markets).

قد يدفع غياب التقارير المتداولين المضاربين إلى الخروج من الأصول عالية المخاطر مثل النفط، خاصة مع انخفاض أعداد المشاركين في السوق قبل عطلات الشتاء. هذا الانخفاض في السيولة سيجعل تحقيق الأرباح في بيئة تداول، يشتكي منها المستثمرون منذ بداية العام، أكثر صعوبة.

وقال فليتشر “أسبوعاً بعد أسبوع، يتحول الأمر إلى مشكلة أكبر فأكبر”.

في أواخر سبتمبر، كانت صناديق التحوط قريبة من أعلى مستويات التشاؤم التاريخية تجاه النفط الأميركي، وفقاً لآخر بيانات متاحة. ومنذ ذلك الحين، فرضت واشنطن عقوبات على أكبر شركات النفط الروسية، على الرغم من أن التوقعات ما زالت تشير إلى أن السوق تتجه نحو فائض في المعروض، ما يعني أن مراكز التداول قد تكون مشتتة للغاية الآن.

وفقط قبل أسابيع قليلة، كانت صناديق التحوط تمتلك أكبر مراكز بيع في تاريخ خام برنت، قبل أن تعكس اتجاهها بأسرع وتيرة على الإطلاق، في دلالة على مدى سرعة تغير التمركز في السوق وعدم القابلة للتنبؤ به. لكن لأن تداول خام برنت يعكس ديناميكيات إقليمية خارج الولايات المتحدة، لذا فهو لا يمثل بديلاً مثالياً للبيانات المفقودة من تقارير (COT).

 

رقابة محدودة في لجنة تداول العقود المستقبلية للسلع

علقت لجنة تداول العقود المستقبلية للسلع (CFTC) معظم أنشطتها الرقابية إلى حين استعادة التمويل الحكومي، حيث قامت بإيقاف نحو 91% من موظفيها البالغ عددهم 543 موظفاً، وفقاً للوثائق التي توضح خطتها خلال فترة الإغلاق.

ويشمل ذلك أيضاً عدداً كبيراً من الموظفين الذين يتولون عادة مهمة مراقبة الأسواق المرتبطة بالمشتقات المالية للنفط وغيرها من السلع.

وردّ متحدث باسم اللجنة على استفسار عبر البريد الإلكتروني قائلاً “مرحباً، أنا في المكتب اليوم، ولكن بسبب توقف تمويل الحكومة الفدرالية، يُلزمني القانون بالرد فقط على الرسائل المتعلقة بحالات الطوارئ.”

حتى قبل الإغلاق، كانت اللجنة تحت ضغط سياسي متزايد، إذ قامت هذا العام بفصل نحو 12 موظفاً تحت التجربة، ضمن حملة “وزارة كفاءة الحكومة  (DOGE) التي تستهدف تقليص حجم القوى العاملة الفيدرالية. كما وضعت المزيد من الموظفين في إجازة إدارية وأرسلت خطابات تقليص وظائف، شملت العديد من العاملين في قسم الإنفاذ.

وقد خفّضت إدارة الرئيس دونالد ترمب آلاف الوظائف والبرامج الفيدرالية، بدءاً من مفتشي المباني ووصولاً إلى مبادرات الطاقة النظيفة، كما أقال رئيس مكتب إحصاءات العمل بعد أن أظهر التقرير الشهري الموثوق انخفاضاً في التوظيف.

وقال تايسون سلوكوم، مدير برنامج الطاقة في منظمة “بابليك سيتيزين” (Public Citizen) غير الربحية للدفاع عن المستهلكين: “الرئيس أعلن أنه لم يعد هناك ما يسمى بالهيئات التنظيمية المستقلة، فجميعها الآن أدوات سياسية تعمل من داخل البيت الأبيض. هناك توجه أيديولوجي واضح بعدم الانخراط في رقابة صارمة.”

دور البورصات وتنظيم ذاتي محفوف بالمخاطر

يجري جزء كبير من عمليات الرقابة من خلال بورصات الطاقة والسلع، التي تديرها مجموعة “سي إم إي غروب” (CME Group).

وقال متحدث باسم المجموعة عبر البريد الإلكتروني: “نحن نراقب أسواقنا باستمرار ونلاحق أي انتهاك لقواعدنا.”

لكن بعض العاملين في القطاع يحذرون من مخاطر التنظيم الذاتي.

وأوضح سلوكوم: “البورصات تؤدي دوراً رقابياً وتنفيذياً، لكن هذا الدور محدود ومليء بالتضارب في المصالح، لأنها مؤسسات تهدف إلى تحقيق الربح.”

من جانبها، أكدت مجموعة “سي إم إي” أنها جهة محايدة لتسهيل إدارة المخاطر وليست طرفاً في السوق، وقالت: “سواء كانت الحكومة مغلقة أو مفتوحة، فإن نزاهة السوق أمر أساسي لكامل السوق. معاييرنا الرقابية لن يتم التنازل عنها تحت أي ظرف.”

بدائل البيانات المفقودة للنفط

أدى الإغلاق إلى زيادة الاعتماد على مزودي البيانات البديلة. فشركات مثل “إنرجي أسبكتس” (Energy Aspects) تنشر بيانات تقريبية لمراكز التداول في أسواق النفط والسلع الأخرى، بينما تقدم “بريدجتون ريسيرش غروب” (Bridgeton Research Group LLC) رؤى حول مراكز متداولي الخوارزميات، الذين تتحرك مراكزهم عادة بالتوازي مع مديري الأموال.

ومع ذلك، تبقى الصورة غير مكتملة، إذ يشكل المتداولون بناء على الخوارزميات فقط نحو 15% إلى 20% من إجمالي مراكز المضاربة المشمولة في تقارير (COT)، رغم أن مراكزهم غالباً ما تكون أكثر ديناميكية من غيرهم، بحسب “بريدجتون”.

كما يمكن للمستثمرين متابعة تدفقات صناديق المؤشرات المتداولة (ETF) وتحركات الأسهم، بالإضافة إلى تقارير التمركز التي لا تزال تصدرها “إنتركونتننتال إكتشينج” (Intercontinental Exchange Inc)، وهي النظير الأوروبي لتقارير مجموعة “سي إم آي”، لاستقاء مؤشرات حول توجهات السوق.

صمت رسمي وتجربة جديدة

ويشغل سلوكوم أيضاً عضوية لجنتين استشاريتين في لجنة تداول السلع المستقبلية، هما لجنة أسواق الطاقة والبيئة ولجنة مخاطر السوق. وقال إنه قبل ست سنوات، تلقى الأعضاء إحاطات حول عمليات اللجنة رغم الإغلاق الحكومي آنذاك، “لكن هذه المرة لم نسمع شيئاً على الإطلاق”.

أما بالنسبة للمتداولين الصغار مثل باندازيان، فقد كانت فترة غياب البيانات بمثابة تجربة للعثور على وسائل ذكية وسريعة للتغلب على العقبات. إذ استغل هذا الوقت لتكوين عادات جديدة لقياس نبض السوق، من خلال الاعتماد بشكل أكبر على الأخبار والمؤشرات الفنية.

وقال باندازيان: “هؤلاء المتداولون الذين يعتمدون على الأنظمة الخوارزمية لهم يد في كل شيء، سواء في البيانات الاقتصادية أو أخبار الاندماجات والاستحواذات الطارئة. تقارير COT مهمة لأنها تمثل آخر معقل من البيانات التي لا يمكن مراجحتها فورياً في السوق.”

Exit mobile version