يتزايد الحديث في الأوساط الاقتصادية والاستثمارية عن “فقاعة الذكاء الاصطناعي”، في ظل تقييمات فلكية، وسباقات تمويل غير مسبوقة، وبناء بنى تحتية ضخمة لم تُختبر ربحيتها بعد. وبينما يرى البعض أن ما يحدث هو امتداد طبيعي لطفرة تكنولوجية، يحذر آخرون من أننا نعيش سيناريو شبيهاً بما حصل مع فقاعة الإنترنت في 1999. فمتى نعرف أن السوق في “فقاعة”؟ وهل من مؤشرات تدعم هذه المخاوف اليوم؟
ما تعريف الفقاعة السوقية؟ وكيف تنشأ؟
الفقاعة هي دورة اقتصادية تبدأ بارتفاع حاد وسريع في أسعار الأصول، إلى مستويات لا تعكس أساسياتها الاقتصادية. هذا الارتفاع غالباً ما يقوده حماس استثماري مفرط مدفوع بالخوف من تفويت الفرصة (FOMO)، ثم يعقبه انهيار مفاجئ يُعرف بـ”فرقعة الفقاعة”.
الاقتصادي الأميركي هايمان مينسكي وضع خمس مراحل تمر بها الفقاعة:
- الإزاحة (Displacement): ظهور فرصة جديدة مثل تكنولوجيا ثورية.
- الازدهار (Boom): دخول استثمارات كبيرة.
- النشوة (Euphoria): تزايد الحماسة والمضاربات.
- جني الأرباح (Profit-taking): خروج المستثمرين المحترفين.
- الذعر (Panic): انهيار الأسعار وهروب جماعي من السوق.
لماذا يصعب اكتشاف الفقاعة أثناء تشكّلها؟
غالباً ما تبدو الفقاعات كنجاحات مبهرة في بدايتها، إذ تنفصل الأسعار عن القيم الواقعية لأسباب متعددة، وقد لا يظهر الانهيار إلا بعد وقت طويل. السعر وحده لا يكفي كمؤشر؛ بل تتضح الفقاعة عند فشل التوقعات في التحقق، أو حين تعجز الشركات عن تبرير التقييمات المرتفعة بأرباح فعلية.
هل هناك إشارات على “فقاعة ذكاء اصطناعي” حالياً؟
نعم، وهناك أكثر من دليل:
سلوك السوق: في يناير الماضي، شهدت السوق اضطراباً بعد إعلان شركة “ديب سيك” (DeepSeek) الصينية عن نموذج منافس بتكلفة زهيدة، مما أدى إلى عمليات بيع هائلة بلغت تريليون دولار في أسهم التكنولوجيا. سهم “إنفيديا” (Nvidia) –أحد أبرز رموز الذكاء الاصطناعي– هبط 17% في يوم واحد.
اقرأ المزيد: ما هو “DeepSeek” الصيني ولماذا يقلق عمالقة الذكاء الاصطناعي؟
سرعة التعافي رغم التحذيرات: رغم تلك الهزة، عادت إنفيديا لتحقق أعلى مستوياتها السوقية، بقيمة تجاوزت 4 تريليونات دولار بحلول سبتمبر، لتصبح الشركة الأكثر قيمة في العالم.
تشابه مع فقاعة الإنترنت: كما في 1999، نرى الآن تدفقاً استثمارياً على شركات ناشئة، كثير منها يروّج لمقاييس غير تقليدية (مثل عدد المستخدمين أو التفاعل بدلاً من الأرباح)، إضافة إلى مشاريع بنى تحتية ضخمة دون وضوح في العائد المتوقع.
هل تتكرر مشاهد فقاعة الإنترنت؟
بحسب المحللين، التشابه ملفت. ففي أواخر التسعينيات، ضخ المستثمرون أموالاً هائلة في شركات تعتمد على “زيارات الموقع” بدلاً من تحقيق الأرباح.
أنفقت شركات الاتصالات حينها مليارات على شبكات الألياف الضوئية قبل التأكد من الطلب الفعلي.
وعند الانهيار في 2001، اختفت شركات بالكامل، أو بيعت بأسعار متدنية لشركات أقوى. واليوم، نرى مؤشرات مماثلة في الذكاء الاصطناعي، وفق بلومبرغ.
هل سيؤدي ذلك إلى انهيار كامل؟ أم تصحيح جزئي؟
الخبراء منقسمون. يقول بريت تايلور، رئيس مجلس إدارة “أوبن إيه آي” ومدير شركة “سيرا” (Sierra): “أعتقد أن هناك أوجه شبه كثيرة مع فقاعة الإنترنت. نعم، هناك شركات ستنهار، لكننا سنشهد أيضاً ولادة شركات عملاقة، تماماً كما حدث مع أمازون وجوجل.
ويضيف: “صحيح أن الذكاء الاصطناعي سيُحدث تحولاً اقتصادياً كبيراً… لكنه في نفس الوقت يشكل فقاعة، وسيفقد كثيرون أموالهم”.
هل هناك ما يميز فقاعة الذكاء الاصطناعي عن غيرها؟
نعم. الذكاء الاصطناعي يتقدم بسرعة غير مسبوقة، وتدعمه شركات تقنية كبرى ذات ملاءة مالية هائلة مثل مايكروسوفت وجوجل، ما يمنحه زخماً مستداماً. لكن المخاطر لا تزال قائمة.
تتمثل المخاطر في الاعتماد على إنفاق رأسمالي ضخم على مراكز البيانات، والشرائح، والطاقة، بجانب تكرار التمويلات لمشاريع لم تُثبت جدواها تجارياً. وغياب نماذج ربحية واضحة في كثير من الشركات الناشئة.
الخلاصة: هل نحن في فقاعة؟
ربما نعم، ولكنها ليست ككل الفقاعات. الذكاء الاصطناعي ليس “موضة” عابرة، بل ثورة تكنولوجية حقيقية. إلا أن الحماسة الزائدة والتقييمات غير المدعومة بإيرادات واقعية تنذر بأن السوق قد تمر بـتصحيح مؤلم في لحظة ما، وفق بلومبرغ.
المستثمرون الذين يركضون خلف الوعود دون تحليل دقيق قد يدفعون الثمن، بينما من يراهن على التكنولوجيا طويلة الأمد، قد يجد نفسه في موقع مشابه لمن استثمر في أمازون في 2001.
مؤشرات على تضخّم السوق
- شركات ناشئة تُقيم بأكثر من مليار دولار رغم غياب المنتج النهائي أو نموذج الربح الواضح. بيانات “سي بي إنسايت” (CB Insights) تشير إلى أن شركات الذكاء الاصطناعي حصلت في عام 2024 وحده على تمويلات تفوق مليار دولار، ما يثير تساؤلات حول استدامة هذه التدفقات.
- حماس غير مدعوم بنتائج: يؤكد محللون أن الحماسة حول الذكاء الاصطناعي ليست جديدة، لكن الفارق اليوم أن التوقعات تجاوزت الواقع. كثير من الاستثمارات تأتي قبل أن يتضح الأثر الاقتصادي الفعلي للتقنية.
- التشابكات المالية والصفقات المغلقة: تقارير بلومبرغ تشير إلى أن بعض الشركات الكبرى مثل “مايكروسوفت” و”أوبن إيه آي” تتبادل الاستثمارات والخدمات في ما يشبه “الحلقة المغلقة”، ما يُعقّد تقييم الطلب الحقيقي بشكل مستقل.
- اعتماد على رؤوس أموال ضخمة دون عائد مؤكد: تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي يتطلب استثمارات هائلة في مراكز البيانات والشرائح المتقدمة. ويرى محللو بلومبرغ إيكونوميكس أن تعثّر السوق قد يترك شركات كثيرة مع تكاليف تشغيل ضخمة وقاعدة عملاء محدودة.
- إشارات من السوق العامة: أسهم شركات مثل “إنفيديا” و”آرم” (Arm) ارتفعت إلى مستويات تاريخية، لكن أي تباطؤ في الطلب أو تغير في سياسة الفائدة قد يؤدي إلى تصحيح حاد في التقييمات.
اقرأ المزيد: “سوفت بنك” تتفاوض على قرض بقيمة 5 مليارات دولار بضمان أسهم “آرم”
شركات في دائرة الفقاعة
تتصدر “أوبن إيه آي” القائمة بتقييم يتجاوز 500 مليار دولار بعد جولة بيع أسهم داخلية، وفق رويترز. ورغم الانتشار الواسع لـ”تشات جي بي تي”، لا تزال الشركة تعتمد على دعم مايكروسوفت الذي تجاوز 13 مليار دولار، معظمها في شكل خدمات سحابية من “أزور”.
كما أن شركة “أنثروبيك” ارتفع تقييمها إلى 183 مليار دولار بعد تمويل ضخم بقيمة 13 مليار دولار من أمازون وجوجل، رغم أن منتجاتها لم تُثبت بعد جدوى تجارية كبيرة.
محللون يرون أن هذا التباين بين التقييمات والأساسيات يعيد إلى الأذهان فقاعة الإنترنت مطلع الألفية.
الشركة | التقييم المعلن | أبرز المستثمرين | التحذيرات |
xAI | 24 مليار دولار (تقديرياً) | مستثمرون متنوعون (بينهم إيلون ماسك) | لا تزال الشركة ناشئة، منتجاتها الأولية لم تُثبت حتى الآن تفوقاً على المنافسين مثل ChatGPT أو Claude. التضخم مدفوع باسم إيلون ماسك. |
Inflection AI | أكثر من 4 مليارات دولار | مايكروسوفت وإنفيديا | تمويل بمليارات رغم أن المساعد الافتراضي الخاص بهم (Pi) لم يحصل على انتشار واسع. يُقال إن مايكروسوفت “استحوذت” على البنية التحتية لاحقاً. |
Cohere | أكثر من 3 مليارات دولار | سيلز فورس وإنفيديا | شركة متخصصة في حلول الذكاء الاصطناعي للشركات، لكنها لم تحقق بعد اختراقاً جماهيرياً أو إعلامياً رغم تقييمها الكبير. |
Runway | غير معلن بدقة (عدة مليارات) | Google Ventures، Coatue | تركز على الذكاء الاصطناعي للفيديو، حققت ضجة إعلامية لكن لا تزال الإيرادات محدودة مقارنة بالتقييم. |
الإنفاق الرأسمالي: سباق بلا توقف
تشير بيانات بلومبرغ إلى أن الإنفاق الرأسمالي (Capex) لأكبر شركات التكنولوجيا —مايكروسوفت، أمازون، ألفابت، ميتا— سيتضاعف من 200 مليار دولار في 2024 إلى أكثر من 400 مليار في 2026. هذا الإنفاق يعكس رهاناً طويل الأجل على الذكاء الاصطناعي، لكنه يثير أيضاً تساؤلات حول ما إذا كان مدفوعاً بالتفاؤل المفرط.
صفقات “الاستحواذ لغرض التوظيف”: عندما تتحول الكفاءات إلى الأصل الحقيقي
من الاتجاهات اللافتة في المرحلة الحالية ما يُعرف بـ Acquihiring— أي الاستحواذ على شركات ناشئة من أجل فرقها الهندسية، لا منتجاتها.
ففي مايو 2025، كشفت بلومبرغ أن “OpenAI” استحوذت على شركة “Windsurf” (المعروفة سابقاً باسم Codeium) مقابل نحو 3 مليارات دولار، في صفقة هدفت أساساً استقطاب الفريق الهندسي المميز.
شركات كبرى مثل ميتا وجوجل تتبع النهج ذاته، ما يُبرز أهمية العنصر البشري في سباق الذكاء الاصطناعي— لكنه أيضاً يُعيد طرح السؤال:
هل نحن أمام فقاعة فعلاً؟
قال رئيس مجلس إدارة شركة “أمازون” جيف بيزوس إن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي يشبه “فقاعة صناعية” قد تؤدي إلى خسائر استثمارية، لكنها في نهاية المطاف ستعود بالنفع على المجتمع.
وأوضح: “عندما يتحمس الناس كثيراً، كما يحدث اليوم مع الذكاء الاصطناعي، يتم تمويل كل تجربة وكل شركة، سواء كانت الأفكار جيدة أم سيئة”.
ولفت إلى أن بعض الشركات تحصل على مليارات الدولارات قبل أن تطرح أي منتج. وتابع: “يواجه المستثمرون صعوبةً وسط هذه الموجة من الحماس في التمييز بين الأفكار المجدية وغير المجدية”.
ومع ذلك، أكد بيزوس خلال مشاركته في “أسبوع التكنولوجيا الإيطالية” أن الذكاء الاصطناعي سيُحدث تحولاً في جميع القطاعات ويعزز إنتاجية “كل شركات العالم”. وشبّه الوضع الراهن بـ”فقاعة صناعية” مشابهة لفقاعة التكنولوجيا الحيوية في تسعينيات القرن الماضي، حين أفلست شركات وخسر بعض المستثمرين أموالهم، “لكن طوّرنا بعض الأدوية المنقذة للأرواح”. كما قارنها بفقاعة الإنترنت قبل 25 عاماً، التي كانت فترة استثمارية مضطربة، لكن العالم يستفيد منها اليوم.
اقرأ المزيد: بيزوس: طفرة الإنفاق على الذكاء الاصطناعي “فقاعة” ستؤتي ثمارها
في المقابل، حذّر بعض المستثمرين من التدفق الهائل للأموال نحو شركات منظومة الذكاء الاصطناعي، إذ قال الرئيس التنفيذي للاستثمارات في صندوق “جي آي سي” (GIC) هذا الأسبوع إن “فقاعة مدفوعة بالضجيج” آخذة في التشكل، ولا سيما في استثمارات رأس المال الجريء في المراحل المبكرة من هذا القطاع.