في أجواء مشحونة بالترقب، تتحول ولاية ألاسكا الباردة إلى مسرح سياسي ملتهب غداً الجمعة، حيث يستعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين للقاء هو الأبرز منذ سنوات.
هذه القمة المنتظرة، التي يصفها المحللون بـ”ساعة الحسم”، ستتقاطع على طاولتها ملفات الحرب في أوكرانيا والطاقة والعقوبات والحروب التجارية، بينما تترقب الأسواق كل إشارة قد تهوي بأسعار النفط أو تقفز بالذهب إلى قمم جديدة.
وبين رهانات الانفراجة ومخاطر التصعيد، ينتظر العالم ليعرف ما إذا كانت ألاسكا ستشهد بداية ذوبان جليد العلاقات، أم عاصفة جديدة تُعيد رسم ملامح الجغرافيا الاقتصادية والسياسية.
بوتين في أميركا لأول مرة منذ 10 سنوات
تمثل القمة التي تعقد في ولاية ألاسكا، أول سفر لبوتين إلى الولايات المتحدة منذ عام 2015، حين شارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ونظراً لأن الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت في 2023 مذكرة توقيف بحق بوتين بتهم ارتكاب جرائم حرب، فهي غير ملزمة باعتقاله.
منذ تولي ترمب منصبه في يناير، تكررت الدعوات من الطرفين لعقد القمة، لكن بوتين أحجم عن تقديم تنازلات لإنهاء الحرب إذ رأى أن روسيا تحقق تقدماً عسكرياً، فيما أرجأ ترمب اللقاء أكثر من مرة لاعتقاده أن فرص إنهاء الحرب معدومة حالياً، مهدداً بفرض عقوبات جديدة على موسكو إذا لم توقف الحرب.
إخماد جبري لنيران أوكرانيا
في 28 يوليو، قال ترمب إنه سيُقلص الجدول الزمني المُتاح أمام بوتين للتوصل إلى هدنة مع أوكرانيا، وإلا سيواجه عقوبات اقتصادية محتملة. ترمب صرح للصحفيين في أسكتلندا خلال محادثات مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: “سأضع موعداً نهائياً جديداً مدته حوالي 10 إلى 12 يوماً اعتباراً من اليوم”.
استقبل بوتين المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، في الكرملين، قبل يومين من انتهاء مهلة حددها ترمب في الثامن من أغسطس للوصول إلى اتفاق بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا.
ذكرت وكالة “تاس” أن مرور 6 أشهر و16 يوماً على تنصيب ترمب دون عقد أي لقاء شخصي مع بوتين يُعد الأطول بين القمم الروسية الأميركية، بعدما كان الرقم السابق 5 أشهر و18 يوماً في ولايته الأولى، فيما تراوح متوسط الانتظار سابقاً بين شهر وخمسة أشهر.
لماذا ألاسكا؟
اللقاء في ألاسكا له دلالات تتجاوز مجرد تحديد مكان الاجتماع، إذ تقع الولاية في أقصى شمال غرب الولايات المتحدة، لا يفصلها عن روسيا سوى مضيق بيرينج، ما جعلها تاريخياً أقرب نقطة تماس بين البلدين، وشهدت محطات من التعاون مثل الحرب العالمية الثانية، وأخرى من التوتر خلال الحرب الباردة.
ستكون زيارة بوتين إلى الولاية أول زيارة لزعيم روسي إلى ألاسكا، رغم أنها كانت جزءاً من الإمبراطورية القيصرية حتى عام 1867، وفق وكالة “تاس” الروسية.
بدأ الاستعمار الروسي لـ ألاسكا في القرن الثامن عشر، قبل أن يبيعها القيصر ألكسندر الثاني للولايات المتحدة عام 1867 مقابل 7.2 مليون دولار. وبعد اكتشاف ثرواتها الهائلة، عُدّت الصفقة خطأً ساذجاً أثار الندم في روسيا.
ووصف سام جرين من “كينجز كوليدج” بلندن على منصة “إكس” رمزية اختيار ألاسكا لعقد قمة حول أوكرانيا بأنها “فظيعة، وكأنها مصممة لإظهار أن الحدود يمكن أن تتغير، وأن الأراضي يمكن بيعها وشراؤها”.. مزيد من المعلومات في الفيديو أدناة.
تفصل ألاسكا عن روسيا مسافة لا تتجاوز 90 كيلو متراً عبر مضيق بيرينج، وفي وسط هذا المضيق تقع جزيرتان متقابلتان: (ليتل ديوميد) الأميركية ، و(بيج ديوميد) الروسية، ولا تبعدان عن بعضهما سوى 3.8 كيلومترات، ويمر بينهما خط التاريخ الدولي (خط وهمي على سطح الكرة الأرضية، منه يبدأ اليوم)، حتى أن إحداهما تُلقب شعبياً بـ”جزيرة الأمس” والأخرى بـ”جزيرة الغد”، وفق موقع (Earthobservatory) التابع لوكالة “ناسا”.
يجعل هذا القرب الجغرافي ألاسكا أقرب ما تكون إلى “خط تماس” مباشر بين واشنطن وموسكو، وهو ما يمنح أي لقاء يعقد فيها رمزية سياسية واضحة.
“لقاء على انفراد”
ترمب سيلتقي بوتين، الجمعة، على انفراد في قاعدة “إلمندورف ريتشاردسون” بألاسكا، في اجتماع وُصف بأنه “تمرين استماع” يهدف لفهم خطط بوتين بشأن الحرب في أوكرانيا. اللقاء، الذي ينعقد بناءً على طلب بوتين، يطمح من خلاله ترمب للحصول على تصور أوضح حول سبل إنهاء الحرب. وهذه أول زيارة لترمب إلى ألاسكا منذ عودته إلى منصبه في يناير، واختيار القاعدة العسكرية يهدف لتسهيل الرحلة وتوفير مزيد من الأمن.
في عام 2018، التقى ترمب وبوتين على انفراد، باستثناء المترجمين الفوريين، لأكثر من ساعتين خلال قمة عُقدت في العاصمة الفنلندية هلسنكي.
أوراق بوتين وترمب
المطالب الروسية المتوقعة في أي لقاء مع ترمب تشمل الاعتراف بسيادة روسيا على شرق أوكرانيا ومنع انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتقييد الجيش الأوكراني، وضمان حكومة موالية لموسكو ووقف إمدادات الأسلحة الغربية وأن تمنح كييف اللغة الروسية وضعاً رسمياً إلى جانب الأوكرانية.
وحذّر بوتين من أن شروط السلام قد تصبح أصعب على أوكرانيا كلما تقدمت القوات الروسية نحو مناطق جديدة لإنشاء ما وصفه بـ”منطقة عازلة”.
ورجح بعض المراقبين أن تعرض موسكو التخلي عن هذه المكاسب الأخيرة مقابل الحصول على أجزاء من الأراضي التي لا تزال تحت سيطرة أوكرانيا في المناطق الأربع التي ضمتها.
زيلينسكي من جهته يصر على أن أي اتفاق سلام يجب أن يتضمن ضمانات أمنية قوية تحمي أوكرانيا من أي عدوان روسي مستقبلي.
وقال زيلينسكي: “الأوكرانيون لن يسلموا أرضهم للمحتل”.
أما ترمب فقال: “ستكون هناك عمليات تبادل أراضٍ، أعلم ذلك من خلال روسيا ومن خلال محادثاتي مع الجميع. لأجل خير أوكرانيا، أشياء جيدة، وليست سيئة… وأيضاً بعض الأمور السيئة للطرفين”.
تأثير القمة على أسعار النفط
قد تسفر القمة عن تخفيف أو تشديد العقوبات الأميركية على الدولة التي تتمتع بعضوية التحالف النفطي “أوبك+”. وحذّر دونالد ترمب من “عواقب شديدة للغاية” إذا لم يوافق بوتين على وقف إطلاق النار، وذلك عقب اتصال مع قادة أوروبيين.
كتبت شركة “رايستاد إنرجي” في مذكرة بحثية للعملاء: “لا تزال حالة عدم اليقين بشأن محادثات السلام بين الولايات المتحدة وروسيا تضيف علاوة مخاطر صعودية، نظراً لاحتمال أن يواجه مشترو النفط الروسي مزيداً من الضغوط الاقتصادية”. وأضافت: “كيفية حلّ الأزمة بين أوكرانيا وروسيا، والتغيّرات في تدفقات النفط الروسي، قد تجلب بعض المفاجآت غير المتوقعة”. وفق ” رويتر” .
قال وارن باترسون، رئيس إستراتيجية السلع في بنك “آي إن جي”، في مذكرة: “من الواضح أن هناك مخاطر صعودية للسوق إذا لم يتم إحراز تقدم يُذكر بشأن وقف إطلاق النار”.، حسب ” رويترز”.
إذا أسفرت القمة عن تهدئة أو تخفيف للعقوبات، قد تنخفض الأسعار نتيجة لتوقعات زيادة المعروض. أما إذا فشلت، فالعقوبات المقترحة مثل التضييق على “أسطول الظل” الروسي قد تدفع الأسعار للارتفاع، مع فرض تعريفات ثانوية على مشترين كبار مثل الهنـد والصين، التي كانت روسيا أكبر مصدر نفطي لها في 2024.
وفقد النفط أكثر من 10% منذ بداية العام، في وقت أنهى تحالف “أوبك+” التخفيضات الطوعية التي بدأت عام 2023.
ترمب والحرب.. مواقف متغيرة
مواقف ترمب من الحرب شهدت تقلبات، إذ بدا في وقت سابق أقرب لموسكو، فقلّص المساعدات لكييف وهاجم الرئيس فولوديمير زيلينسكي، قبل أن يوافق مؤخراً على صفقات سلاح إضافية ويدين القصف الروسي للمدن الأوكرانية.
وقبل شهر، قال عن بوتين: “يلقي علينا بالكثير من الهراء… إنه لطيف معنا طوال الوقت، لكن يتضح أن الأمر بلا معنى”.
عاد ترمب إلى خطاب السلام قائلاً: “الجميع يتفق على أن هذه الحرب يجب أن تنتهي، وسنعمل من أجل ذلك في الأيام والأسابيع المقبلة”.
لكنه أقرّ بأن العقوبات قد لا تحقق النتائج المرجوة. وحتى الآن، لا توجد مؤشرات على تغير موقف بوتين، إذ مكنت عائدات الطاقة روسيا من الصمود أمام العقوبات.
في مقابلة مع شبكة “سي إن بي سي” (CNBC)، قال ترمب: “سيتوقف بوتين عن قتل الناس إذا خُفّضت أسعار النفط 10 دولارات للبرميل”، لكنه لم يفرض عقوبات على الصين، أكبر مستورد للنفط الروسي، فيما أكدت الهند مواصلة شراء النفط من موسكو.
أوكرانيا.. الحاضر الغائب
أوكرانيا، ورغم أنها طرف أساسي في النزاع، لن تكون ممثلة في قمة ألاسكا، رغم إعلان ترمب عزمه لقاء زيلينسكي لاحقاً، كما تغيب أوروبا، التي تُعد الأكثر تضرراً من الحرب، عن القمة. ومع ذلك، أعلن سبعة من قادة الدول الأوروبية دعمهم لجهود ترمب، مع التشديد على ضرورة إشراك كييف في أي مسار نحو السلام.
قال ترمب يوم الأربعاء، إنه يود عقد اجتماع ثان مع الرئيسين بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي إذا سار اجتماعه الأول مع بوتين في ألاسكا الجمعة “على نحو جيد”.
وأوضح ترمب، خلال مؤتمر صحفي، أنه في حال نجاح القمة مع بوتين، سيعمل على تنظيم لقاء ثلاثي “في أقرب وقت ممكن”، مؤكداً استعداده لحضوره إذا رغب الطرفان في ذلك.
تشير تصريحات بوتينإلى سعيه لخفض سقف التوقعات بشأن التوصل إلى اتفاق سلام شامل خلال قمته المقررة في أنكوريج بألاسكا مع بوتين، وفي الوقت نفسه إبداء تجاوب مع مخاوف شركائه الأوروبيين الذين دعوه إلى إعطاء الأولوية لإجراء محادثات مباشرة بين بوتين وزيلينسكي.
أشار إلى أنه من المقرر أن يعقب لقاءه بالرئيس الروسي “اتصالاً بالرئيس زيلينسكي”، مضيفاً: “قد لا يكون هناك اجتماع ثانٍ، في حال شعرت أنه ليس من المناسب عقده لأنني لم أحصل على الإجابات التي يجب أن نحصل عليها، فلن نعقد اجتماعاً ثانياً”.
كما عقد ترمب، قمة افتراضية استضافتها ألمانيا مع عدد من القادة الأوروبيين بينهم زيلينسكي، وسط آمال أوروبية بأن يكون الاجتماع قد ساهم في تشكيل رؤية ترمب قبل اجتماعه المرتقب مع بوتين.
4 سيناريوهات لقمة ألاسكا
رسمت صحيفة ” كييف بوست” أربعة سيناريوهات رئيسية ليست مرتبة حسب احتمال حدوثها، لكن جميعها واردة جداً لهذه القمة، كالآتي:
السيناريو الأول: الدوران في الحلقة المفرغة
يلتقي ترمب مع بوتين، ويقع في فخ تلاعبه النفسي وربما عن طيب خاطر. ويضغط على أوكرانيا لقبول اتفاق ظالم ومهين، ربما لمجرد وقف إطلاق النار. ترفض أوكرانيا، وتتزايد الضغوط. والعودة إلى نقطة الصفر، مع تحميل ترمب المسؤولية لأوكرانيا مجدداً.
السيناريو الثاني: الانسحاب
يرى ترمب حقيقة لعبة بوتين. ويدرك أن زعيم الكرملين يسعى فقط لكسب الوقت، فينسحب، دون التوصل لاتفاق ولا يقوم بدور الوساطة ويبقى الوضع يبقى كما هو.
السيناريو الثالث: التحول نحو الضغط
يدرك ترمب أن بوتين يضلله، ويختار الرد بالمثل، ويفرض عقوبات جديدة ورسوم جمركية ثانوية. هذا الاحتمال ليس مرجحاً كثيراً، بالنظر إلى مواقف ترمب السابقة المتساهلة مع روسيا، لكنه خيار قد يقلب موازين الضغط.
في الآونة الأخيرة، صعّد ترمب من الضغط على نظيره الروسي مهدداً بفرض عقوبات اقتصادية، إذا لم يتم التوصل لهدنة في أوكرانيا. وأشار إلى إمكانية فرض “عقوبات ثانوية” قد تطال الدول المستوردة للنفط الروسي. التهديدات لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل إنذار مباشر لحلفاء كبار مثل الهند والصين: إما أن تنسحبوا من سوق الطاقة الروسية، أو تدفعوا الثمن.
السيناريو الرابع: الاتفاق المفاجئ
تحرز المفاوضات تقدماً بهدوء، ويتم توقيع وقف إطلاق نار أو نوع من الاتفاق في ألاسكا أو بعد ذلك بوقت قصير. هذا الاحتمال ضعيف جداً. ولن يعني بالضرورة إنهاء الحرب أو حتى تجميدها، لكنه سيغير ديناميكيتها بين ليلة وضحاها.
ويرى ستيفان مايستر، محلل الشؤون الروسية في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، أن الزعيمين “سيحضران القمة بأهداف مختلفة، فترمب يسعى إلى إنهاء الحرب، بينما يسعى بوتين إلى إعادة تموضع استراتيجي لروسيا”. وأضاف مايستر: “بالنسبة لبوتين، الأمر يتعلق بأهداف أكبر، يتعلق بإرثه، وموقف روسيا بعد هذه الحرب، إنه أمر أكثر جوهرية. هذا يخلق استعداداً مختلفاً لدفع الثمن”.
ومع استمرار رفض موسكو وكييف تقديم تنازلات، تبقى آفاق التسوية ضعيفة، ويبقى السؤال الأهم الآن هو: هل ستمثل القمة تحولاً حقيقياً في مسار حل النزاع الأوكراني؟ أم أنها ستكون مجدداً بداية كاذبة وضجيجاً بلا طائل؟”.