لم تعد الأسواق المالية تنقسم بوضوح بين محلي وعالمي. في عصر السيولة العابر للحدود، تتحول البورصات إلى نقاط التقاء، لا مجرد منصات تداول. والمملكة العربية السعودية تخطو خطوة جديدة في هذا الاتجاه، عبر آلية “شهادات الإيداع السعودية” (SDRs)، التي تفتح للمستثمر المحلي نافذة مباشرة على أسهم شركات عالمية، من داخل السوق السعودية.
لكن أهمية هذه الأداة لا تتوقف عند التداول. فهي تمثل تغييراً هيكلياً في بيئة السوق، وتبشر بظهور فئات جديدة من المستثمرين، كالمراجحين، ما يعكس تحول “تداول” من سوق محلية إلى منصة ذات بعد عالمي.
ما هي شهادات الإيداع السعودية؟
شهادات الإيداع أداة مالية تمثل ملكية غير مباشرة في أسهم شركات أجنبية. وتصدر من خلال تحويل الأسهم الأصلية إلى شركة إيداع محلية، التي بدورها تُصدر شهادات مطابقة لها يتم تداولها في السوق المحلية وفق معامل تحويل محدد مسبقاً.
اقرأ المزيد: بورصة السعودية تطلق شهادات الإيداع للاستثمار بالأسهم العالمية
استكمال الضوابط والانطلاقة المرتقبة
مسؤول في “تداول” أوضح لـ”الشرق” أن العمل جارٍ على استكمال الضوابط المنظمة لتداول شهادات الإيداع خلال العام الحالي، بالتعاون مع شركة مركز الإيداع (Edaa)، لضمان سهولة التسجيل والتسوية وإدارة الملكية. وأكد أن هذه الشهادات ستتداول بالريال السعودي وتخضع للتسوية محلياً، مع منح المستثمرين الحقوق الكاملة لحاملي الأسهم الأصلية، بما في ذلك التصويت وتوزيعات الأرباح.
الأداة ستكون متاحة للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، وتتيح تداول أسهم كبرى الشركات العالمية داخل السوق السعودية، بما يزيد جاذبية السوق ويعزز تكاملها مع الأسواق الدولية.
نافذة جديدة على العالم
منذ الإعلان عن الأداة، برزت تفسيرات متعددة لتأثيرها. محمد الفراج، الرئيس الأول لإدارة الأصول في “أرباح كابيتال”، يرى أن شهادات الإيداع تمثل جسراً يربط المستثمر المحلي بالسيولة العالمية، موضحاً أن هذه الخطوة ستتيح فرصاً غير مسبوقة للتنويع دون أعباء بيروقراطية خارج المملكة.
وأكد الفراج أن ظهور ما يُعرف بـ”المراجحين”، الذين يقتنصون فروقات الأسعار بين السهم الأصلي ونظيره المحلي، يُعد تطوراً صحياً، إذ يسهم في رفع كفاءة التسعير وتسريع ربط الأسعار المحلية بنظيراتها العالمية.
ويأتي هذا التوجه في وقت بلغت فيه قيم تداولات مؤسسات السوق المالية بالسعودية في الأسواق الأميركية مستويات قياسية، حيث سجلت نحو 193.4 مليار ريال بنهاية الربع الثاني من عام 2025، بارتفاع نسبته 230% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وذلك وفقاً لبيانات هيئة السوق المالية السعودية.
الفترة | القيمة (مليار ريال) |
الربع الأول 2024 | 62.31 |
الربع الثاني 2024 | 58.56 |
الربع الثالث 2024 | 89.66 |
الربع الرابع 2024 | 102.18 |
الربع الأول 2025 | 164.31 |
الربع الثاني 2025 | 193.40 |
التعاون مع البورصات العالمية
رهانات “تداول” لا تقتصر على عمق السوق المحلي، بل تمتد لتعزيز التعاون مع البورصات الكبرى. وتبرز بورصات الولايات المتحدة مثل بورصة نيويورك (NYSE) و”ناسداك” (NASDAQ) كخيارات مرجحة، إلى جانب بورصات لندن وفرانكفورت ذات الشركات الكبرى، وبورصات آسيا مثل هونغ كونغ وطوكيو. وتولي السوق السعودية اهتماماً خاصاً لبورصة هونغ كونغ، باعتبارها مركزاً مالياً رئيسياً وبوابة لشركات التكنولوجيا والصناعة.
إضافة عمق جديد للسوق
غسان الذكير، الرئيس التنفيذي لشركة “معيار المالية”، يرى أن شهادات الإيداع تضيف عمقاً نوعياً للسوق المحلية، إذ تتيح دخول قطاعات غير ممثلة محلياً مثل التكنولوجيا والسلع الفاخرة والرعاية الصحية، ما يعزز تنويع المحافظ.
وأوضح أن المراجحة ستسهم في انضباط التسعير وتعزيز السيولة، شرط وجود صانعي سوق نشطين وآليات شفافة للتسعير المرجعي، إلى جانب تثقيف مستمر للمستثمرين حول طبيعة المخاطر.
الفرص والتحديات
فادي قانصو، الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية، يرى أن إطلاق شهادات الإيداع خطوة استراتيجية لربط السوق السعودية بالأسواق العالمية، لكنه يشير إلى تحديات تتعلق بتباين الأنظمة التنظيمية والقانونية بين الأسواق، ومتطلبات الإفصاح والحوكمة والضرائب، إضافة إلى مخاطر أسعار الصرف.
كما نبه إلى أن قلة خبرة بعض المستثمرين الأفراد قد تعرضهم لمخاطر أكبر، ما يستلزم جهوداً تثقيفية واسعة وإطاراً رقابياً متيناً يوازن بين تعزيز السيولة وحماية المستثمر.
شهادات الإيداع الدولية.. التجربة السابقة
سبق للمستثمرين السعوديين التعرف على شهادات الإيداع الدولية (GDRs) التي سمحت للشركات المحلية بالإدراج في أسواق أجنبية. لكن “SDRs” تختلف جوهرياً، فهي أداة محلية بالكامل تستهدف جذب السيولة للداخل وتوسيع قاعدة المستثمرين في السوق السعودية.
كانت هيئة السوق المالية السعودية سمحت عام 2020 للشركات المُدرَجة في “تداول” بإصدار شهادات الإيداع خارج المملكة مقابل أسهمها المتداولة في السوق المحلية بهدف جذب الاستثمار المحلي والأجنبي.
عبدالله الحامد، رئيس الاستشارات الاستثمارية في “جي آي بي كابيتال”، أوضح أن “GDRs” تتميز بصدورها بعملات رئيسية تقلل مخاطر تقلبات الصرف. واعتبر أن إدراج شهادات الإيداع السعودية في أسواق كبرى مثل لندن ونيويورك وهونغ كونغ سيعزز من جاذبية المملكة ويسرع وصول المستثمرين الأجانب إليها.
وإلى الآن لم تصدر أي شركة سعودية شهادات إيداع لتداولها في أسواق خارجية.
ولادة المراجحة
من أبرز التحولات المتوقعة مع إطلاق شهادات الإيداع السعودية “SDRs” بروز المراجحة كعنصر رئيسي في السوق. فالمراجحون يتابعون الأسعار بين السهم الأصلي وشهادته المحلية ويقتنصون الفارق لتحقيق أرباح. ورغم أن هذه العمليات قد تضيف تقلبات لحظية، فإنها في المجمل تعزز من عدالة الأسعار وكفاءتها.
الخبراء يرون أن وجود هذه الفئة سيغير طبيعة التداول في المملكة”، ويضيف بعداً عالمياً جديداً، خاصة إذا جرى تنظيم نشاطهم بشكل فعال.
مستقبل مفتوح
نجاح شهادات الإيداع السعودية لن يُقاس بعدد الشركات الأجنبية المدرجة فقط، بل بقدرتها على ترسيخ ثقافة استثمارية جديدة في المملكة. فالمستثمر المحلي أصبح أمام فرصة للمشاركة في أسواق عالمية عبر “تداول”، في تحول يجعل السوق السعودية أكثر التصاقاً بالحركة المالية العالمية ويعزز مكانة الرياض كعاصمة مالية إقليمية ذات أفق عالمي.